مجاوزة اللزوم

Friday, September 5, 2014

اشكالية الخطاب وازمة العقل البوست ثوري في تونس

اشكالية الخطاب وازمة العقل البوست ثوري في تونس
العنوان يستعمل استعارة من الباحث اداورد سعيد عن البوست كلونياليزم
يلعب مجال تحليل الخطاب في الامم الغربية ومؤسساتها دورا محوريا في دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية والنفسية ايضا وصولا الى تفكيك الادوات اللغوية ورصد تفاعلها اجتماعيا لدراسة تاثيراتها وديناميكية تفاعلها داخل القوى الاجتماعية.  بقطع النظر عن المذاهب والمقاربات المعتمدة، يصل الباحثون الى تفصيل الظواهر الاجتماعية والسياسية والامنية وغيرها انطلاقا من منطوق لغوي يحتل مكانة خاصة او يمثل ظاهرة فريدة بذاتها. 
إلا أننا وفي سياق تحليلينا لمجمل الظواهر الاجتماعية في المجتمعات العربية قلما ننظر الى المعطى اللغوي بشكل علمي ممنهج.  اللغة عندنا مجموعة من المعاني تقرأ في سياق ما قيل ولاي هدف ومن اي منطلق لتقييم المحتوى وربطه بمجمل المفاهيم التي تعاطى معها في حياتنا اليومية.  كما أن القارئ لمجال تحليل الخطاب قد يفهمه على انه دراسة علمية لخطاب مكتوب صادر عن شخص مهم او معبر عن مضامين مهمة سياسيا او علميا.  على العكس تماما، يعتبر تحليل الخطاب اداة فاعلة في دراسة الظواهر وليست معولا يسلط على الكلمات المهمة التي بلقيها المسؤولون بغية استخراج مجموعة من المعاني ودراسة حالة ما سياسيا او امنيا.  وبذلك فإن تحليل الخطاب كما يعرفه رافيل سالكي   Raphael Salkieليس تقييما له او ارسال احكام عن النص، بقدر ماهو دراسة للبنية اللغوية للخطاب وصولا الى تحديد الاليات المكونة  للمعنى المراد تبليغه.  كما أن تحليل الخطاب يصل الى مستويات دراسة دور اللغة في صياغة التفكير لدى الافراد ويجيب على اسئلة معرفية ظلت لسنوات من اختصاص علوم أخرى مثل الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس، فبحسب بربارا جونستون Barbara Johnstone، يجب على من يريد فهم الانسان ا يفهم تحليل الخطاب.   بهذا المعنى فنحن اليوم بحاجة الى علم تحليل الحطاب لفهم الكائن البشري في المكون الاجتماعي. 
إن فهم الانسان في هذه المرحلة التاريخية من الاشياء المهمة التي يجب ان ننتبه اليها لكي يكتمل تصورنا عن الفرد وعن الازمات الاجتماعية التي عادة ما نفصلها  على أنها ازمات عنف وغلاء معيشة وغيرها من التمظهرات التي تعبر نشرات الاخبار وعناوين الجرائد اليومية.  إن الأزمات الاجتماعية اعمق من التمظهرات التي نعاني منها وهي بحاجة الى دراسة وتفصيل بغاية تحديد مواطن الخلل التي تكمن وراء العلة التي نراها لمجمل مشاكلنا اليومية.  إن ظاهرة العنف، مثلا، هي تعبير ع مشاكل نفسية وعائلية واجتماعية اشمل لكنها كظاهرة خطاب تعني وجود خلل هيكلي في مجمل التصورات التي يحملها الناس عن الاشياء من حولهم.  إذا ببحثنا في العنف فإننا نصل الى بنى لغوية ومفهومية مغلوطة تساهم في صنع العنف كظاهرة بشكل اقوى مما يسببه الفقر والحرمان وغياب التواصل العائلي.  فان تكون فقيرا مثلا ومن وسط مقصى إجتمعيا لا يحتم ان تكون عيفا.  لكن البناء المفهومي الذي من خلاله تحدد معاني الاشياء والعلاقات من حولك هو الذي يؤثر في علاقات الاشياء بعضها ببعض وردود افعالك عليها.  تعلل جونستون ذلك بان وجود المفردات قد يكون مسؤولا عما نتظره مما يمكن ان تعبر عنه كمفاهيم مشتركة.
  في نفس السياق يعتبر الالسني الفرنسي بينفينيست ان عدم وجود الضمير "أنا" بخلاف ضمائر اخرى مثل "هو" و "هي" و "هم" هو سبب في كون اللغات تشترك في خاصية اعتبار الناس منفصلين عن بقية الموجودات.  كما تضيف ايضا ان عدم توفر منظومة أزمنة صرفية معقدة في اللغة الأنجليزية يمكن ان يفسر الاهتمام الملحوظ للانجليز بالوقت (الساعة).  تدور مجمل هذه الافكار في سياق ما رسمته فرضية سابير و وورف منذ النصف الاول من القرن الماضي من أن الهيكلة اللغوية المتمثلة ف البنى النحوية والصرفية تؤسس الهيكلة العقدية وحقيقة الاسياء في الواقع.  ففي الواقع، ويقطع النظر عن درجة الحتمية والوثوقية العالية لمثل هذا الكلام، يبقى البناء الداخلي للجمل وجعل الافعال في واجهة الكلام في اللغة العربية، في اغلب التركيبات، امرا ذا دلالة في تركيب عقولنا ومناهج تفكيرنا.
إذا تلعب القواعد والمفاهيم اللغوية دورا هاما في صياغة فهم معين للاشياء من حولنا، وفي وجه اخر من اوجه حركة الجدلية بين اللغة والفكر المؤسس للكيان البشري، ينطبع الفعل اللغوي سلوكا نسعى الى تحقيقه واقعا. فكثير من المفاهيم التي نكتسبها للاشياء والعلاقات التي نقيمها للامور من حولنا هي مشاريع لواقع نبغي تاسيسه. من هنا يتأكد لنا أن جزءا من مأساتنا تنبع من كوننا نريد المفاهيم العقلية واقعا، وهو ما يعني اننا في درجة من درجات اللاوعي واهمون ان اللغة، كبناء مفاهيم وعلاقات، هي سابقة للوعي.  يضرب وورف مثالا على ذلك بالقول ان حكمك على برميل نفط وقع افراغه بانه فارغ يعني انك اسقطت فهما في غاية الخطورة في صورة ما اذا اقتع احدهم بالقول واشعل سيجارة بجانبه.  إذا ايجاد واقع من منطوق لغوي امر لا يقل خطورة عن التمويه والخداع.  يعتقد شرزر (Sherzer, 1987)  ان الخطاب يخلق ويعيد خلق الثقافة واللغة ثم يقوم بتحويرهما، وبذلك فان الخطاب يخلق مفاهيم ثقافية واديولوجية جديدة.  وهذا هو السياق الذي ظهرت فيه دراسات التحليل النقدي للخطاب فيما بعد على يد فيركلاف ووداك (Fairclough & Wodak, 1997)  وهو ما عبر عه ميشيل فوكو (Foucault, 1972) فيما قبل من قبيل القول بأن اساليب الخطاب تؤسس اساليب التفكير لخلق ايديولوجيا جديدة ونشرها.  فيعمل خطاب العلماء الذي يستعمل الافعال المبنية الى المجهول على ترسيخ فكرة ان التجربة العلمية والحقيقة العلمية متجاوزتان لمن يقوم بهما وهما بذلك لا ترتبان بفاعل معين، ما يفعله هذا الاختيار اللغوي هو ترسيخ موضوعية المحتوى وقدسيته المعرفية. 
اذا ما طبقنا مجمل الافكار المطروحة في سياق سعي الخطاب الى ترسيخ واقع جديد عبر بنى لغوية عفوية في خطاب العامة في المنتديات وصفحات الشبكات الاجتماعية نرى أن اللغة تتسم بالوثوقية العالية (إن، كل، لاشك،)  والاستعمال المكثف لادوات الثبوتية (من المسلمات، ينبغي، من المحال ..) وادوات التقسيم بين خندقين متنافرين، متصارعين يشتد النفور بينهما الى درجة الصراع العنيف.  كما ان المفردات تتسم بالعنف شتما وتوبيخا واستهزاءا وتشهيرا وتسفيها وتهديدا. في حين تتكثف الصور الجنسية والمواضيع المتصلة بالقدح في قيم الرجولة والفحولة والشرف بشكل واسع للتشهير بالطرف المقابل المتمثل في الغريم السياسي.  ما صيغ التاكيد المشفوعة بالافعال الماضية المرتبطة بحقل دلالي عنيف ( لقد قتل، إن ذبح، لا شك أن تهجير، إلخ) تستعمل لتجريم الطرف الاخر.  هنالك دائما طرف اخر في خطاب المرحلة اللاحقة للثورة في تونس، من نوع هم ونحن، هم ملحقة بها كل اساليب السب والشتم والتعيف والوعيد و"نحن" الضحايا الذين عانو من تجاوزات الاخر.  من بين الاساليب اللغوية المتوارثة في اللغة العربية هي استعمال ادوات التوكيد في بداية الجملة لابعاد اي شبح للشك. كما ان استعمال الافعال يجعل البنية اللغوية محتمة لوجود فاعل مسؤول عن الفعل، أي طرف قام بشيئ ما، عادة. وهذا الامر يخدم المفاهيم سابقة الذكر ويجعل تقبلها ممكنا.  فيكفي ان تقول مثلا "إن ما قام به فلان من تشتيت للمجتمع وللبنية الاسرة لهو من باب عدائه لقيم كذا وكذا" ليصبح المعنى ان ما قام به ثابت وأن النتيجة حتمية وسيئة.
  هكذا تبنى المفاهيم السياسية خاصة اذا ما وقع الاعتماد على خلفية دينية او عقدية صلبة كالعصبيات الجهوية والمذهبية والحزبية وعصبيات الاقليات.  فيكفي ان يتوجه خطاب وثوقي باسم احدى هذه الاطراف إلى الطرف الذي في الجانب الاخر حتى تخلق عداواة ويصبح التفكير اما معي او مع اعدائي.  ثم ان نيل الاستحسان لا يتم بالا بالولاء للشخص او للطرف الذي ينتمي اليه.  اما عن النتيجة التي تبرز عن كل هذه الظواهر اللغوية فهي تشكل الانوات كاشخاص لا تربطهم بمن حولهم ثقافة حوار ولا امل في الطرح والطرح النقيض والمنزلة ما بينهما.  لا توجد مناطق وسطى في لغة التطرف والشمولية والعنف والمفاهيم الجاهزة.  هذه المدينة اسمها كذا لان نصا ما او مصدرا ما او حجرا ما يشير الى ذلك فم يسميها بغير ذلك فهو كافر بافكاري ومن يكفر بافكاري هو عدو لي.  يقع التنافس على التسمية وفرض تسمية اخرى مكانها ورفض التسمية المتعارف عليها.  في قضية مشابهة للصراع الفارسي العربي على تسمية الخليج عربيا او فارسيا، لكن مع فارق ان الصراع الجيوسياسي له دلالته وللتسمية مبرراتها وتاريخيتها، يمكن ان فهم صراع المصالح هذا بين الدول على مجرد التسمية، لكن ان تفتح جبهة داخلية مبدؤها لغوي حول تسمية مكان ما امر يجعل مسالتي السلام والتوافق الداخليين في منتهى الخطورة.  هنالك موضوع اخر يلعب فيه اللغوي دور المؤسس للهوية فبين مثبت لهوية اقرها الدستور الى ناف لها ومتنصل من اللغة والدين والثقافة والمعطى كما يعتبرونه تلعب اللغة دور المؤسس والمقر والناحت والنافي والمستهزئ والساب والشاتم والنافي للاخر. 
قد يظهر التحليل السابق للظواهر اللغوية في تنافر تام مع روح الثورة كمشروع جمعي وكاطار لعمل وطني فيه من الالتقاء اكثر مما فيه من الافتراق، فالثورة هي تشكيل لحمية وطنية جامعة وتشكل لوعي جمعي خارق لا مثيل له الا عند الحروب وحصول الغزوات الاجنبية.  الا ان المفارقة ابعد من ذلك، اذ يظهر الخطاب العنيف لمكونات مجتمعية تدعي الثورية، ويصبح المكون السياسي والاجتماعي الذي قامت عليه الثورة جزءا من المكونات التي تمارس التساب على صفحات التواصل الاجتماعي.  بقطع النظر عن صدق الثورية لدى الطرف المدعي لها، فإن الخطاب الثوري لا يظهر في لغتها سواءا اكان ذلك في مشروع طروحاتها ولا في جماعية نظرتها.  قد يكون من الانسب ان نتحدث عن شيء ما قد تم ولم يحقق الحالة الثورية في مستوى الافراد بقدر ما قتل الروح الجمعية وقوى الروح الفردية ونزعة الغنيمة والتعادي، وهو ما يمكن ان نسميه بالعقل البوست ثورجي.  لاشك ان التسمية محاكمة للثورة في حد ذاتها عبر خطاب استهزائي مستنقص من قيمتها، لكن التوصيف يحيل الى حالة لم تتم وعمل لم يستكمل وادعاء لم تستطع العقول ان تجسمه كحقيقة حاصلة في الاذهان والمشاريع والافكار.  إن أزمة العقل اليوم متمثلة في جملة من التوصيفات السلبية والخطيرة التي يمكن من خلالها ان نرى ان العقل في مرحلة البوست ثورة هو عقل الثورجية عقل : انفعالي، روابطي، اقلياتي، توهمي، ثبوتي، عنيف، مكبل باللحظة، سوداوي، هدام، غير مستشرف وغير مبدع.