مجاوزة اللزوم

Wednesday, December 26, 2012

تصبحون على سابع آخر

تصبحون على سابع آخر

حذاري من طبخة من فري وسحت فاحت رائحتها النتنة.  منذ بداية مشوار الانتخابات و التأسيسي اصبح الاعلام يطبخ على نار هادئة لارجاع السلطة الى المافيا القديمة وانهالت الشتائم على النهضة االغبية المتكالبة ثم افرغ المشهد من كل شيئ الا الدساترة (حزب فرنسا) و النهضة. 
 
 حتى اليسار كان فقط اليد التي يضرب بها الاخطبوط المالي الاعلامي السياسي المشبوه النهضة. لا نرى يسارا ببرامج ومواقف مبدئية بل نسمع اصوات تفزيع من نهضة النكبة.  لم يكن المشروع صعبا فالنهضة تهدي الانجازات الى خصومها كعادتها.  الان تستبعد كل الاطراف الا ابناء فرنسا: يخدمهم الاعلام، يظهر مناقبهم، يري لقطات هزائم اعدائهم، يلمعهم من الماضي المعيب، يقل عثراتهم، يبعث فيهم االروح ويصنع لهم كيانا برموز سابقة. ينفخ في هذه الرموز لكي تهيئ الامر لمن سيأتي : الفارس الذي يحل بنا بنفس سيناريو 7 نوفمبر منقذا منحوتا متزنا كما يجب ان يكون رجل الدولة.  هيبة الدولة ورجل الدولة والواقعية واللهجة التونسية وخدمة الوطن واجهتهم، أما ما تحت ذلك فأسم من ليوم من ايام شهر من الاشهر والتبرير إنقاذ الوطن.
 
ستخيم سحابة سوداء يخالها العامة عارضا مستقبل أوديتنا وبراها الثقفوت فرصة للاستقرار، لكن أديم الارض يدرك اللعبة و يستعيد ذاكرة الارض. من هنا وفي يوم نحس كهذا مر السابع المشؤوم  وجنود زروق وعسكر فرنسا وبدو الحجاز.  تماما كما جاء عقبة رفعته الرايات وكذب التاريخ في استثنائنا.  لازلنا من يزرع ويحصد ويحارب و يقتل في كل المعارك ثم إذا أعياه الزمن يعرك الحجر فيذوب فيه الحجر ومن تراب الارض يصنع يدا كلما خسر قطعت يده في معاركه الازلية مع الغزاة.
 
نحن ابناء الارض يا امراء الغزو المتلفح بالفهلوة.  من دمنا حكمتم وغنمتم وعشتم وبنا تتاجرون وتحاربون ولا تستحون.  ها أنتم اليوم    تعيدون نفس اللعبة.  غير انكم نسيتم أن من بدأ الحرق عرف سر اللعبة وأرسى المعادلة الصعبة: برماد جسدي سأحرقك أيها الغريب.

Saturday, December 8, 2012

أما آن للعقائديين الواهمين أن يتعلموا؟

أما آن للعقائديين الواهمين أن يتعلموا؟
لستم في مستوى الثورة ولا تمثلون شعبها.
ما إن إجتمع القويمون والأسلاميون في المؤتمر القومي الأسلامي في أواخر القرن الماضي حتى خلنا الصراع غير المبرر بينهما على اللغة (الأمة الاسلامية  مقابل الأمة العربية) والرموز (تلميع وشيطنة رموز مثل عبد الناصر) قد ولّى وأن الوعي بالتاريخ قد بلغ مداه معلنا بذلك سقوط المؤامرة.  أما عندما إلتقت القوى السياسية المتنافرة إيديلوجيا و عقائديا والمتناحرة على الدوام، داخل أسوار الجامعة على الأقل، في هيئة 18 أكتوبرفقد أيقنا أن الوعي الحضاري قد بلغ ذروته وأنه بإمكاننا صياغة مشروع حضاري يضعنا في مصاف الدول المتحضرة بإمتياز.  غير أن النكوص الذي نراه اليوم يعيدنا إلى مربع الصراع الأيديلوجي الضيق ويلغي الأمل في نعيش في وطن واحد أحرارا متساوين من دون أن يمس ذلك من جوهر الأديان ولا عقائد اللادينيين.  إن المؤكد اليوم هو أنه وفوق غبار المعارك الكلامية والميدانية فإن جوهر الصراع ليس من يمتلك الأحقية والشرف والجدارة والشعبية والشرعية أو من يملك المبرر الديني أوالأجتماعي لقيادة البلد بل من يستطيع أن يقدم مشروعا وطنيا في مستوى تحدايت وأحلام الثورة (وليس أقل من ذلك) يلحقنا بمستوى عقلية ومؤسسات الشعوب المتقدمة وعيا ومعرفة وحضارة.  هذا ما عجز عنه ضيق اللأفاق لدى القوى الأيديولوجية ومجمل الأحزاب  السياسية وما لا تريده الطفيليات المتمعشة من التخلف والفساد الأداري.
إن الفرز بين أيقونة الثورة كمشهد تتكثف عنده آمال عظيمة في الحرية وكرامة العيش وبناء الدولة الوطنية  وما إسبتطنه السياسيون قبل الأنتخابات وتقيؤوه على شرف الشعب فيما تلى ذلك أمر مهم لكي نعلم أن الأصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك ليس فقط من الملهيات عن إستكمال برنامج الثورة، بل هو أيضا خيانة لمن أستشهدوا ولمن عبروا عن وطنيتهم دون حسابات أنانية.  وبالرغم من كون الثورة لم تفرز قيادات ولا ممثلين شرعيين، فإن كل من شارك وساند وشعر بأهمية الثورة ووعى بحركتها مطالب اليوم بتأكيد هذا الفرز وتدارك الموقف بإستعادة الملكية الحصرية للثورة والأولوية لمطالبها خارج أطر الأحزاب والمؤسسات الرسمية وشبه الرسمية ورموزها وأتباعها.
ليس لنا من حل للخروج من دائرة الهلاك التي وضعنا فيها التناحر العقائدي (إسلامي – يساري- قومي – علماني – بورقيبي – إلخ) إلا بالرجوع إلى الحالة الثورية وما أجمع عليه الشعب في حركة  تاريخية عفوية عبر شعارات يجب أن تبقى المرجع الأساسي لكل بناء سياسي وإقتصادي وإجتماعي للبلد.  بدل الوقت الضائع والخوض في صياغة الدستور بأذواق الأيديولوجيات وشهوات الأحزاب وهرطقات المتحذلقين من المتطفلين على المشهد السياسي كان علينا أن نبني بإحساس مرهف بتاريخ البلد وأصوله وجذوره  وموقعه الجغرافي وآفاقه المستقبلية. لن نعدم الوسيلة إذا ما إستثنينا الطروحات الأيديلوجية المستوردة (من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) ولن نعجز عن تحديد هذه المنطلقات المهمة وربطها بإتقان بشعارات الثورة.  لن نموت جهالة أو نتيه في أقبية الشعبوية والعجز إذا نحن عدنا إلى مثقفي البلد المرابطين على الحياد والصامتين كمدا ممن لم يجتذبهم هوى السلطان بعد.  لن نفشل إن نحن عدنا إلى  الشعب البسيط الذي أنجز الثورة وأهداها إلى أحزاب إعتبرتها غنيمة من الله الحكيم العليم الذي لا يهدي بلدا، يذكر فيها إسمه وأهلا يعبدونه أبا عن جد، عبيدا بيد من يقررون مستقبله.  كما أن النضال الشعبي ليس كاسحة ألغام أمام الرفاق المثقفين تمهد لهم طريق السلطة لكي يتكلموا من كراسيهم المريحة بإسم العامل والفلاح وهو الأعلم  بوعيه الفطري بعقلية الأستئثار والغنيمة والأستغباء.
لا يصدر الإقصاء لأبناء الشعب إلا عن مستثقف متحذلق أضاع الوعي الطبيعي بمجاله الثقافي والأجتماعي والتاريخي.  المثقف الحقيقي هو من يستوعب الوعي الفطري ويربطه بأنساق الوعي المعرفي المتجذر في فهم التاريخ والفضاء.  لذلك فإن الأحزاب والتيارات السياسية في مجملها تتخبط في سياق لا تفهمه ومستعدة لأفناء العمر وإتلاف البلاد والعباد من أجل تطويع الواقع ليطابق مفاهيمها.  إن مجرد إظهار الصراع على أنه طبقي أو ديني أو مذهبي يدل على جهل بخصوصية المرحلة وتحديات الثوار.  لم يثر الشعب من أجل أن يبني دولة دينية ولا من أجل أن يخلص العقول من التدين.  لهذا الشعب دينه وثقافته و حضارته وتاريخه الذي يشترك فيه مع باقي أقطار الفضاء الحضاري العربي الأسلامي ويتجاور بموجبه مع فضائه الأقليمي الأوسع وهو لا يحتاج إلى أسلمة أو تغريب.  دعوه يحدد وجهته فالأكراه لا يغير مجرى التاريخ.  ولو كان يمكن أن يتغير مجرى التاريخ بالأكراه لما وجدتمونا نمارس شعائرنا التي تعلمونها ونتكلم اللغة التي تفهمونها اليوم ولا نفكر بالطريقة التي لم يكن الأستعمار ولا من جاء قبله او بعده يشاؤون لنا.  لا تكرروا خطأ الأستعمار والدول الوطنية التي جاء بعده ولا تعيدوا سيرة من جاءنا من الغرب ومن الشرق ليبيد روحنا. فما أخذوا سوى المغانم. بقيت الأرض لأهلها والروح لأصحابها ولم يغير التاريخ مجرى نهره ليجعلنا مثل بدو نجد ولا مثل فرنسيي باريس.  نتفاعل مع فضاءاتنا الجغرافية والحضارية المجاورة فنبني شخصية منفتحة لا تفقد روحها وأصلها.  سأستنبط من دراسات ومحاضرات الأستاذ الباحث محمد سعد الشيباني هذا الفهم لطبيعة البلد الحضارية من خلال إجتماع الجغرافيا والتاريخ.  إن الناظر إلى جغرافية المنطقة يفهم ثلاثة أمور مهمة: طريق الجادة الكبرى الذي يربطنا بالشرق، الصحراء التي هي ملاذنا عبر بوابة الجبل جنوبا والبحر الذي عبره تتم التجارة ومنه يأتي الطامعون ثم يغادرون.  إن الثراء الثقافي لشعب يستقبل موجات البشر والأفكار والصنائع هو أكبر مكسب يجب أن يغنينا عن الأيديلوجيات الجامدة وغير المتأصلة.  هذه المبادئ هي التي تبني الوعي الجمعي الفطري بالأمور وليست رؤى التطويع والأكراه.
أما الذين يحملون أمانة أسلمة البلد تطبيقا لشرع الله فهم واهمون يخلطون بين الدين و التاريخ في نسخته الرسمية.  إن التكاليف الشرعية في ديننا الحنيف ليست ملزمة للعقيدة ولا للسلوك.  لم يكلفنا الله عز وجل بجعل الناس مسلمين ولا مطبقين لشرعه بالأكراه.  والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم لم يهاجر إلى المدينة ليجعلها دولة إسلامية.  بل أسس دولة مدنية متحضرة بموجب عقد يجمع المسلمين وغير المسلمين على عهد أمان. لم يؤذي أحدا منهم أبدا أو يحاسبه على تجاوزه للحدود.  الخيانة فقط هي ما دفعه إلى محاربة جماعة ممن يدينون باليهودية، وهو ما يعتبر خاينة وطنية بأعرافنا الحالية.  إن ما يسمى بتطبيق الشرع هو إنخراط طوعي في منظومة تشريعية إقتنع بها الناس تمام الأقتناع بعد أن وفرت لهم تشريعات تحميهم وتقطع الطريق أمام الحرمان والجور بكل أشكاله وليس قبل ذلك.  كانت تلك الضمانات كافية لكي تضمن عدم ظلم المسلم لنفسه أو لغيره.  كما أنها تبقى منظومة فيها درجة كافية وعالية من الحرية إذ أن الخروج منها ممكن بالخروج من الدين نفسه.  فلا يعاقب بحد الخمر من لا يؤمن بالله ورسوله.  إن الله الذي بعث نبيه بالحق لقادر على أن يمكنه من نشره بحد السيف ولم هنالك من مبرر لتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأذى وأخذه باسباب الهجرة لحماية نفسه وأتباعه لو أن الدين بالأكراه.  لم تكن التشريعات التي تنزل بها القرآن سوى منظومة إقناع تشترط التوحيد وتجرم الموبقات وتحرم ما يسيئ إلى الأنسان وكرامته.  كما أن الأسلمة لم تكن مطروحة أبدا.  كان النهج هو دعوة من يجهل الدين بالأقناع توضيح أمور الدين لمن جهلها. 
أما حلم المجتمع المثالي المتدين بالإشباع الذي يرتدي الزي الإفغاني ويسدل الستار على كل جسد المرأة، حتى العينين أحيانا، فليست غير صورة ثقافية وتصور فردي علاوة على أن تصبح التدين الحصري أو منظومة ملزمة للمسلمين.  كما أن إستبطان أسلمة المجتمع والهيمنة على الدولة بإسمه بأوراق مخفية وسياسات تستبله وعي الناس ليست مطلبا في ديننا ولا هي من روحه.  بل هي في جوهرها إساءة إليه.  حتى على مستوى اللغة فإن الأسلامي والأسلمة هي صياغات مزيدة وإشتقاقات تفيد المبالغة في الشيئ والتعسف على الدين نفسه.  فبدل الحديث عن إقتصاد إسلامي ودولة إسلامية ومنهج إسلامي وغير ذلك من التصنيفات، كان الأجدر الرجوع إلى أصول البلد روحه التي لا يمكن أن تقبل أبدا، بحكم عمقها الحضاري، ما يخالف الله وشرعه.  ثم أن تجاوز الدين والخروج عنه فيما هو معلوم من الدين بالضرورة يجب ان يكون معيارا لتقييم السياسات والبرامج المقترحة من أي كان بدل إيجاد قوالب وتسميتها بالأسلامية وحصر الأسلام فيها.  إن الاسلام ليس خلافة ولاهو برنامج بعينه.  الخلافة خلقها سياق تاريخي خاص ولم تنزل في محكم التنزيل و لا يتوقف عليها الدين.  علينا أن نتخلص من الصور المغلوطة للتاريخ.  على الأقل إن لم تكن لدينا الجرأة على إعادة كتابة تاريخنا فلا مبرر لمواصلة تصديق النسخ الواهية منه.  الأمرّ من ذلك هو أننا لانقرأ تاريخنا لنعلم أن ما تسوقه بعض الكتب المدرسية والأفلام مسموم. 
إن التحرر الذي طرحت الثورة رهانه يبدأ بالعقول وينتهي حتما بإعادة صياغة الرؤى والطروحات، "فمن لم يرم صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر" ويجرفه السيل فيندثر.    أو لغيرهو
      

Monday, December 3, 2012

رسالة مفتوحة إلى كرسي السيد رئيس الجمهورية-

ملاحظة بعد النشر: أسف لقد تراجعت عن كثير مما ضمنته هذه الرسالة وابعث بالرسالة الى كرسي الرئاسة ومن من المفروض به ان يكون في مقام رئيس لتونس بعد ثورتها المجيدة



رسالة مفتوحة إلى مقام وكرسي السيد رئيس الجمهورية

كرسي سيدي الرئيس تحية طيبة 
السلام عليكم
لم يكن تفاعل الشعب معكم منذ إنتخابكم من قبل المجلس التأسيسي من قبيل النفاق ولا مدعاة إلى الأستغراب بحكم ماضيكم النضالي المشرف ومواقفكم المعروفة في نصرة الحريات العامة وتفعيل الديمقراطية. لقد إستبشر الشعب خيرا بمقدمكم على رأس مؤسسة الرآسة بعد الأنتخابات وعلق كثيرا من الأماني على ذلك، رغم إختياركم التصويت على التخلي عن كثير من الصلاحيات التي كانت ستنقذنا من كثير من المنزلقات التي حدثت فيما بعد. لكن، ورغم جهلنا بطبيعة التوازنات داخل منظومة الترويكا حينها، إعتقدنا أن النفس الثوري الذي حملتموه منذ عقود سيقربكم إلى صف الشعب ويجعلكم صمام الأمان في سبيل تحقيق مطالب الشعب وتقعيل شعارات الثورة التي أكدت من جديد سموها على مطالب الأحزاب والنخب السياسية.
اليوم، ولئن أضحت الرؤية أكثر تعقيدا فإن ما وضح من خلال غبار المعارك الحزبية والتحركاتالشعبية يبقى عدم قدرة الأحزاب على إستيعاب مطالب الثورة ولا حتى الموقف الشعبي. إن اللهاث المستمر لمجمل الكيانات السياسية وراء الكسب الحزبي الضيق أصبح في تنافر شديد مع القدرة على تحقيق أهداف الثورة التي يجب أن تمثل دوما مرجعنا الرئيسي لتقييم كل برنامج سياسي أو عمل في الشأن العام. بقدر تناسق برامج وسياسات الأحزاب مع الشعارات الرئيسية للثورة بقدر ما يمكننا ان نثق في قدرتها على تمثيلنا والأئتمان على الثورة. إن الحكم المبطن على الثورة على أنها مجرد تحركات شعبية لا تمتلك وضوح الرؤية أو البرنامج الأجتماعي والقراءة الصادقة للتاريخ الجمعي في سياقه الحضاري والتاريخي هو مكمن الخطأ الذي يبدو أن النخب السياسية تمثلته. مما قد يتجاهله الكثيرون هو أن الوعي الفطري الذي أنتج شعار "شغل، حرية، كرامة وطنية" والرد القوي على الحقرة والتجاهل لمتساكني الداخل بثقله التاريخي والحضاري لم يكن فقط تعبيرا عن مطلب إجتماعي بل أيضا وضعا لمنهاج سياسي في التعاطي مع هذه المناطق. 
أبناء هذه المناطق يا سيادة الرئيس ليست مجرد محروم إنتفض غضبا وثار في حركة مشابهة لثورة الزنج في سياقنا العربي الأسلامي. إن هذا المجال الجغرافي والحضاري هو مخزون حضاري لهذا االشعب توارث الجينات الأصيلة للثوابت والمتغيرات. إنكم لترون اليوم كيف أن المكونات الشعبية تفهم بأدوات الوعي الفطري خور السياسة وأخطاء السياسيين بدون الحاجة إلى محللين أو وثائق أو أدوات أو حتى محرضين. لم يفلح الطرفان سواء المحرضون على الفتنة أو اصحاب القرار في إقناع القوى الإجتماعية بالأنخراط في مسارها. 
لذلك فالأصغاء إلى الناس على بساطتهم هو مطلب أساسي اليوم وأكثر من أي وقت مضى. إلا أن هذا المطلب ليس ممكنا في ظل تمسك الأحزاب بخدمة مصالحها ويبقى الأمل في سيادتكم لتنحازوا إلى مطالب الشعب والثورة و تنقذوا البلد من شرور التجاذب السياسي ومخططات الأحزاب. 
لا أطالبكم بالأنقلاب على الشرعية الأنتخابية بقدر ما أدعوم إلى الاصطفاف إلى جانب الشرعية الشعبية وتمثيل قوى الشعب من غير خلفية إيديلوجية أو إنتماء سياسي. يستدعي الأمر على الأقل تنبيه الغافلين ووضع حد للتلاعب بمصير الشعب من كلا الطرفين بدون تهديد أي كيان سياسي. ولا يكون ذلك في نظري بدون تشجيع الشعب على حمل المشعل واستكمال مشوار الثورة الذي ينتظرنا الكثير لتحقيقه.
مقام سيادة الرئيس إن الثورة التي تجاسرت على دكتاتورية من أعتى الدكتاتوريات الحديثة وطرحت تحديات كان الخوض فيها من قبيلك أحلام اليقظة لجديرة بأن تأخذ مداها كاملا وأن تصبح مرجعا للقوى الثورية في العالم بأسره. ومن الصغارة والمهزلة أن ندع الفرصة تفوتنا لنعيد للتاريخ مجده و نبني تونس التي تستحق بكل إصرار و عزيمة كما فعل الأجيال السابقة والأجداد الذين صنعوا المجد في كل مراحل التاريخ رغم الأطماع الأجنبية. آن لنا يا سيدي الرئيس أن نستحضر همة القادة الأمازيغ العظام وعزيمة الفينيقيين ومبادئ ديننا الحنيف ومرجعية حضارتنا العربية الأسلامية لكي نعلم أننا لم نخلق لنحني الظهر لأمنية عابرة أو نرضى بقشور لا توصنا إلى منصة الأمم التي دفعتها همتها إلى العلى. 
لقد أقدم الثوار بهدم صور السجن الذي وضعنا فيه نظام المهانة سنين طويلة، فهل نعجز عن إقتحام قلعة النصر بالتعالي عن صغائر المطالب وعقلية الأقليات والأحزاب؟ هل تبقى النخب المثقفة من أمثالكم سجينة المشاريع الحزبية والجمعياتية التي لا ترى من ثقب الباب إلا فضاءها؟ 
أملنا كبيرفي إنضمامكم إلى القوى الشعبية غير المتحزبة أو المتربصة بغنائم الشعب .
ودمتم مقام سيادة الرئيس في حفظ الله

Monday, February 27, 2012

في مسألة الأسلام السياسي من جديد، من تصيّد السحرة[1] إلى أيقونة العصر

في مسألة الأسلام السياسي من جديد،

من تصيّد السحرة[1] إلى أيقونة العصر.

يستعمل مصطلح تصيد السحرة witch huntingفي سياق لجنة السيناتور الأمريكي ماكارثي في سنوات الخمسينات التي عهد إليها بالبحث عن المندسين من الأمريكان المساندين للمد الشيوعي. عرفت هذه اللجنة بالتجاوزات الضخمة في حقوق الأنسان والتنكيل والتعسف في الأتهامات الغير قانونية في حق العديد من الامريكان. وكتب عنها بأسلوب السخرية والتعريض الشديد عديد من المثقفين من أمثال أرثر ميلر في مسرحيته الشهيرة البوتقة (The Crucible).

في مثل لجنة جوزيف ماكارثي، إتخذت الحرب على الإرهاب المتمثلة في محاربة المتشددين الإسلاميين شكل التضييق على مظاهر التدين والإنتماء إلى الأسلام. فقد كان يكفي التردد على المساجد بكثرة وإطلاق اللحية لكي يصبح الفرد في موقع شبهة. وكما الإتهام بممارسة السحر، فإن الأتهام بممارسة ودعم الأرهاب أصبح محاكمة للفرد على نواياه وترتيبا لسيل من الاستنتاجات التي قد تضع أي شخص في حكم الأرهابي. لقد كان وضع الخوف وفشل الأليات البوليسية وبث الرعب وإنعدام الأمن السمات البارزة لكلتا الحالتين. ففي المثالين، يعود الخوف إلى قوى مجهولة تعمل بآليات التخفي والمباغتة. لذلك إعتقد العقل المكارثي أن الحيلة تكمن في المبادرة والهجوم ولو بتجاوز القانون كما حصل في البشاعات التي أرتكبت في قوانتانامو وغيره من السجون السرية التي كان ينقل إليها المشتبهون الذين يقبض عليهم كغنائم حرب من مخابرات دول مثل باكستان. لقد أوغل أباطرة الصيد في جمع أكبر عدد ممكن من المتهمين و بيعهم لآلة التعذيب والتنكيل. لقد كان موسم الصيد مدمّرا لأرواح عديد الابرياء ولكنه عبّر عن نمط من التعامل غير الغريب على التاريخ الأمريكي مع الأعداء وأيضا مع من يقع في شبكة صيد الأعداء. كما أنها حرب دينية بأمتياز من منظور الغرب، كما عبر عنها بوش في زلة لسان مقصودة! واصاب الهلع الشديد الحكومات أكثر من الأفراد.

من جديد لم تفلح حملات الصيد البشري في إقتلاع الخوف من الأسلاميين بل فشل المشروع الأرعن في إفغانستان والعراق وعوض أن يوفر الحماية لأمريكا وإسرائيل،أصبح الطرف الأخطر في قوى المقاومة الواعية أكثر سيطرة على مشهد التوازن في المنطقة. بل إستغلت إيران الصفقات للعمل في مشروعها النووي وتبني توازن يمنع أمريكا من المرور إلى المنطقة إلا عبر بوابتها. فبدل التخلص من الخطر الاسلامي وضرب أسباب القوة في العراق ونشر الفوضى الخلاقة، عملت قوى ذكية و عنيدة في المقاومة على ضرب التوازن الأقليمي بهزيمة صيف 2006: المعركة التي عجز فيها جيش العدو عن التقدم لأمتار مرات في جنوب لبنان و أندحر أمام ضربات المقاومة، ثم يكرر العجز ذاته أمام كيان سياسي أضعف في غزة فيفشل في إقتحام مدينة هدمها الفسفور الابيض إلاّ من مجاهدين مرابطين. لم تكن النتائج لتقف عند حد فشل العسكر، بل فشل مشروع الخنق في غزة وإنهار الجيش الذي لا يهزم في فلسطين المحتلة وبدأ التشكيك في العقل والمعدات والمعنويات بحسب تقرير فينوغراد الأسرائيلي نفسه. الصيد هذه المرة بأيد اسرئيلية لكنه ضمن خط أمريكي أيضا تآمرت فيه الدول العربية سكوتا، لعبا تحت الطاولة، مباركة أو حتى مشاركة. وسكتت أصوات عديد المفتين ورجال الدين تحت عنوان ضرب الشيعة جائز بالمداراة أحيانا و خراسا حينا آخر. لكنهم لم يجدوا مبررا عندما قصفت غزة غير الشيعية! في الحالتين ينال الصيد، صيد الأعداء للسحرة، حركتين إسلاميتين مقاومتين هما حزب الله وحماس. وفي نفس السياق تشن الغارات على المدنيين في إفغانستان لصيد بعض أبناء القاعدة وطالبان ضمن الأطفال والشيوخ والمدنيين العزل. لا ينال الصيد كل المسلمين طبعا، بل يستثنى منه كل من سالم وهادن وبارك المشروع السياسي وسكت عن الظلم في العراق مثلا.

فلمن لا يرى من خلال الغربال[2] ولايزال ينظر إلى المسألة بعين الأستقطاب المذهبي مثلا، كل من كتائب الصدر وحزب الله شيعة. الأول طرف في التطاحن المذهبي وأداة ذبح بها كثير من العراقيين، الثاني حزب مقاوم و فصيل سياسي حرر أراضي عجزت عنها الجيوش النظامية وأسرى عجزت عنهم جلسات السلام الحميمية. توقفت آلية التحليل بالمذاهب إذا! ولا غرابة أن يطال الصيد الأمريكي حزب الله دون كثير من التنظيمات الأسلامية الشيعية. في المحصلة حملة الصيد تخيّرت القوى الفاعلة وإستهدفت المشروع الاسلامي سواءا أكان تننظيما عالميا أو حزبا سياسيا يعمل داخل حدود بلده.

لكن الناظر إلى مابعد الثورات العربية يلحظ غيابا لأسلحة الصيد في التعامل مع الأحزاب الأسلامية الصاعدة في المشهد السياسي. ضمن الصورة التي رسمها المفكر الألسني ناعوم تشومسكي, لا يمكن أن تبارك أمريكا الثورات، فهي تلتف عليها بإخفاء البندقية ورمي الانشوطة. فلماذا تصطاد أمريكا إسلاميا و تترك آخر؟

مثلت الأحزاب الأسلامية أيقونة عصر مابعد الثورات لأسباب وقع تناولها فيما قبل لعل أهمها آليات التحليل السياسي لدى غالبية الناس التي تتسم بالوثوقية في أي مشروع إسلامي حتى قبل فهمه. و كذلك تمكن بعض هذه الأحزاب من بلورة مشروع هوية ومرجعية متأصلة في وجدان الأمة. وبما أنه حاز على رضا الناس، لم يعد مجديا محاربة شرعية الثورات بقدر ما يقتضي الحال مسايرتها والعمل من داخل أنظمتها. ومن جهة أخرى لم يعد بإمكان أية أطراف سياسية أخرى من الوسطية البرغماتية إلى الراديكالية الهيمنة على المشهد السياسي. فلغة التجييش الديني والمذهبي والفقهي القائمة بفعل فاعل ستبقى عاملا مهما في تحييد أي طرح آخر. بذلك يصبح خلق الأيقونة الاسلامية بإختلاف درجات وسطيتها ضاربا لكل طرح متوازن حتى من داخل المنظومة الأسلامية نفسها. نظرا لما تمثله المرجعية الدينية من بعد كبير في شخصيتنا، تبقى الركن المتحكم في صياغة أي موقف من الشأن العام والذي من خلاله تقيم تجارب الحكم والعاملين في الشأن السياسي. وبما أننا كمسلمين مشاريع أفهام ومرجعيات مختلفة حتى في داخل المذهب الواحد، فإن التجاذب يمكن أن يحتد كل مرة بين حدّي السلفية والمشروع الأسلامي المدني مثلا. يضاف إلى هذا طبيعة الحركات الأجتماعية في هذه المرحلة والمستوى التعليمي الموروث عن دولة الفساد في الأنظمة السابقة. وبذلك لم يعد الاسلام السياسي مشروعا يقتضي الصيد بأدوات الحرابة بقد ما أصبح مشروع تصيّد بآليات السياسة والأحتواء.

الملفت للنظر أن الثورات التي قامت كانت في أكثرها برعاية إعلامية خاصة من قنوات عربية معي!نة وبتدخل من الدول الغربية في بعض الأحيان، سواءا عسكريا في ليبيا و سياسأو سياسيا كما في اليمن وسوريا إلى حد اللحظة. بعيدا عن نظرية المؤامرة التي قد تذهب بعيدا في إعطاء بعض الأطراف الأقليمية دورا فوق طاقتها في إدارة الثورات، يبقى الدور الخارجي عاملا ثانويا من حيث الأسباب والنتائج. فقطر مثلا ليست نظاما أو بلدا يصنع الثورات ويلهمها ولا هي في موقع المدير لها. مرة أخرى أذكّر بدور العوامل الطبيعية المؤدية إلى قيام الثورات وإلى المؤثرات النفسية التي سآتي على ذكرها في سياق موضوع الهمة لاحقا. لعل من دواعي إحترامنا للتحركات الأجتماعية التي طالما حلمنا بها والنأي بتفكيرنا عن الغيبيات في السياسة أن ندع ما يريب إلى ما لا يريب. الدعوة إلى ترك ما لا يمكن إثباته بالوقائع والحيثيات والشواهد يفسح المجال إلى التحليل المنطقي الممنهج الذي يمكننا من تأصيل النظرة وفهم الواقع بشكل صحيح.

إذا، شملت الثورات رعاية خاصة لا تخلو من التساؤل والأتهام، خاصة وأن النتائج التي أفضت إليها إلى الآن هي تمكين الأحزاب الأسلامية من السلطة عبر إنتخابات نزيهة. يبدو أن المرجعية الدينية تجندت هي الأخرى لتعلن بلغة السياسة وعمامة الدين تأييدها لقوى الثورة في سياق ثورات بعينها. بدون أن ننظر إلى الأمر بعين إحكام قوى المؤامرة، يظهر جليا أن فسح المجال لمفت من وزن الشيخ القرضاوي ليخوض في السياسة بغير آلياتها لم يكن سوى ردفا للموقف السياسي ومساندة له بالمرجعية الدينية. لا ضير أن يصبح شيوخ العلم مساندين لحركة الشارع مادام فيها تحقيق لمصلحة عامة ودفع لمفسدة مطلقة تمثلها الأنظمة العربية العاجزة. لكن إعلان موقف سياسي بمصطلحات الدين للعمل على إسقاط نظام وغض الطرف على آخر يجعل الأمر مريبا ولو صدر من شخص في مستوى شيخ كنا بالامس نبارك مساندته لحريتنا الدينية في بلد كتونس ودفاعه عن الخط الوسطي المنفتح في الفقه. إعلان نهاية القذافي ومؤازرة الثورة السورية لا يتكرر مع الثورة البحرينية، ثورة طلب فيها الشعب حريته ورفع شعار "لا سنة ولا شيعة" الذي أسقط في كثير من التغطيات التلفزية ليظهر التحرك كمؤامرة إيرانية صرفة. لم تأخذ الثورة طابعا مذهبيا ولا حتى دينيا. لكنها كانت ستمثّل نقطة تحوّل في مصير الأنظمة التقليدية في المنطقة.

كانت الثورات تقود في كل مرة إلى سقوط الأنظمة وصعود قوى سياسية إسلامية، تباركها بعض وسائل الأعلام وتحتضنها بعض الدول، لكن يعلن الغرب عن إمتعاضه. لو سلمنا بأنها الديمقراطية وحرية الشعوب في تقرير مصيرها لكان علينا أن نرى نفس الموقف يتكرر مع الثورة البحرينية والتحرك الشعبي المهم، والذي نعت بالتململ الشيعي، في شرق السعودية. لم يبارك القرضاوي ثورة البحرين بل إعتبرها ثورة طائفية مصادرا بذلك حق الناس في بناء وطنهم بسبب إنتماءهم المذهبي. إن الخلط بين التأثير الأيراني الواضح في ديمغرافيا و سياسة دول الخليج بإعتبارها جزءا من مجالها الحيوي لايعني أن نسلب الشيعة في هذه الدول الحق في المواطنة. فلكونك شيعيا يمكن أن تأتمر بالمرجعيات الشيعية في قم أو حتى تعلن ولاءك لها لا يبيبح مصادرة حقك. مرة أخرى نخلط بين الأشياء فبدل أن نصنع مجالا حيويا يوازي المجال الأيراني، نرد على سياسته الممنهجة بتهم التدخل. لكل دولة الحق في صياغة مجالها الحيوي، لكن للدول الأخرى الحق في رفضه وإلزامها بمجال آخر أكثر واقعية. لا يرد العاقل على مشروع سياسي بمجرد التهم.

لم يغضب الغرب لقدسية حقوق الأنسان ولم ينتصرلمدنية الثورة بل ترك المجال للمعالجة الداخلية الأمنية البحتة لأن مصير الأنظمة التقليدية المتحالفة معه في الميزان والمد الشيعي بدأ يعطي عمقا آخر للدور الأيراني. المهم إذا إعتبرناها حركة دينية، فإن إقصاءها لا يعود إلى إسلاميتها بل بعلّة السياسة والمصالح. إما إذا إنخرطنا في القراءة المذهبية ولو منهجيا نرى أن الثورات السنية لا الشيعية هي المطلوبة على ما يبدو.

إذا نحن إزاء مشهد تتكثف فيه التناقضات حتى تفقد أنساق الفهم التقليدي مبررات إستعمالها. لقد بدأت تتشكل ملامح مرحلة جديدة لمجتمع دولي مثقل بأعباء الأقتصاد وبإنسداد للأفق لم تفلح فيه ترقيعات ضخ الأموال في الأقتصاديات المتهالكة. كما أن آليات التحكم وضبط مسارالأحداث تغيرت بتغير إستراتيجية التحكم ذاتها. مع أرتفاع تكلفة التدخل المباشر أصبح نظام التوكيلات والفرنشايز أجدى وأكثر تحكما في الموارد المالية والبشرية. كما أنه اضمن من حيث العواقب والتداعيات في حال الفشل. لقد رأينا هذه الملامح في عمل الشركات الأمنية في حرب العراق. ونراها الآن في تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة العربية. عوض إعلان الحرب على الحركات الأسلامية الصاعدة، تتولى الدول الغربية تدجينها وإستغلال الجدل الذي يخلقه وجودها في السلطة، مع ضمان وجود قوى إجتماعية قادرة على خلق الفوضى وإفشال المشروع متى تجاوز الخطوط الحمراء. لا يمكن أن نشك يوما في أن مساندة قوى المقاومة في فلسطين ولبنان يزعج امريكا بنفس القدر الذي يؤلم به إسرائيل. لذلك فإنخراط الأنظمة الجديدة في أي مشروع يدعم المقاوم ويطرحها كبديل عن مشروع حلب البقرة الميتة الذي يسمونه مسار السلام في الشرق الأوسط غير مسموح به من جهة المعسكر الغربي عموما. ولا يمكن تصور أي شكل من منافقة الغرب لنفسه بالرضا عن هذه الأنظمة وتدعيمها بالمال لأنقاض إقتصادياتها والسماح لها بتاسيس مشروعها الأسلامي. كل ما في الأمر هو مد لطوق النجاة من الجهتين وإستعمال لأداة الأنشوطة بدل الأسلحة التقليدية.

إن التعويل على الأيقونة الأسلامية كما يريد الغرب صياغتها في هذه المرحلة هو ضرب للمشروع المدني الحداثي بمرجعياته الأسلامية والعلمانية. إذ أن ما نشاهده من ردود فعل مستفزّة من مجموعات علمانية ومن ظهور لجماعات ترتدي اللحية يوم واقعة العنف وتستعدي كل مخالف غير منطقي في دول ثارت من أجل الحرية. كيف لثائر من أجل الحرية أن يحتكرها في اليوم الموالي للثورة؟ لا تبنى المجتمعات بدعاوي الأقصاء ولا بالقوى التي لا تقرأ الخارطة السياسية بوضوح. نحن بحاجة إلى جعل الأيقونة الأسلامية مشروعا فكريا حداثيا جامعا لا منفّرا وتحويلها إلى عمل سياسي واع وومنهج ومتناسق لا مجرد عمل برقماتي صرف أقصى مبتغاه أن ينقذ نفسه من الفشل في أول تجربة حكم.



[1] http://en.wikipedia.org/wiki/McCarthyist

[2] مقتبسة من الأغنية المعروفة: ألي ماشاف من الغربال.

Thursday, February 23, 2012

بدعة الجنجويد

3- بدعة الجنجويد[1]

الكل يتذكر مصطلح الجنجويد في الصراع غرب السودان، لكن الجميع تقريبا خاصة من غير المتابعين لمسألة دارفور يتصور أن الجنجويد هم قبيلة أو مجموعة عرقية في المجتمع السوداني، بل أن الأمم المتحدة نفسا عرفتهم على أنهم عرقية منتشرة في مناطق أفريقية أخرى[2]، والحال أن الكلمة تعني كل من ركب ذا حافر أو اذا خف وغزا ليلا أو نهارا طلبا لمغنم و سلب. بقطع النظر عن الخلفية القبلية والاجتماعية لهذه الفئة فأن المدهش هو حشرها في عنوان واحد وكانها من أصل قبلي واحد أو على الاقل من قبيل واحد. يقدمها الأعلام على كونها حركة واحدة و الحال ان لاعرق يجمع بينها. أما المريب في هذا الامر هو كونها جماعات بدون قيادة أو مرجعية واحدة تضبطها وهو مايتجعلها في منأى عن كل إنضباط او مسار أو تتبع.

إن ظاهرة الجنجويد لا تعبر عن نظرية المؤامرة بقدر ما هي تآمرطبيعي إلتقت عنده عناصر الفتنة التي يريدها الطرف المدبّر وإطلاق العنان لعناصر منفلتة لتقوم بعمل تخريبي يتناسب مع طبيعتها دون الحاجة إلى تكليف بمهمة. يتلخص التآمر في تمكين قوى التخريب والنهب والخروج عن القانون من الانفلات واستعمال أدواتها بمفردها و ذلك بتعزيز سبل نجاحها في تجاوز آليات حفظ النظام، إختراق العناصر الفاعلة فيها وإخراجها إعلاميا على كونها رمز تمرد شعبي ومؤشر على غياب سيطرة الدولة. بإختصار، هي إحدى علامات الفوضى الخلاقة. ليس هذا من قبيل استبطان المؤامرة ولا القول بأن طرفا بعينه يحرك الأحداث بقدر ما هو محاولة لفهم آلية عمل القوى الأجتماعية القابلة لإنفلات عندما تشعر أنها لا تخضع لمراقبة القانون ولا لعامل أو محرك خارجي مباشر. قد تكون محقة في قولها أنها ليست جزءا من المؤامرة، لكن ترابط العوامل على الأرض بحكم طبيعتها أكثر فاعلية من العناصر المتحركة فيه.

إن إستعمال مثال الجنجويد لا يعني أن الأمثلة المذكورة تمثل عناصر نهب و سرقة أو هي خارجة عن القانون أو أي شكل أخلاقي آخر بقدر ما تعني أن هذه القوى الإجتماعية لا تعي تفاعل حركتها في مجمل القوى السياسية في المنطقة وفي العالم وهي ،بحكم المناخ العام أو نقص وعي بعض أطرافها أو إنضباطهم، تتحرك بشكل طبيعي قد يتناسق مع خلفيتها الفكرية لكنه لا يعي مقتضيات العمل في المرحلة.

إن الناظر إلى مجمل الحركات الأجتماعية في الدول بعد الثورات يلاحظ صعودا غير مسبوق لعناصر من الأعداء التقليديين للدول الغربية، تلقت في أغلب الأحيان ترحيبا، بل ودعما مباشرا لها بالسلاح. المشهد الليبي يطفح بهذا المعنى بشكل جلي. لم تكن القوى الغربية بهذا المستوى من الغباء حتى تمد السلاح إلى أعداء الأمس القريب، بل وحتى اليوم. ولم تكن الأطاحة بالنظام البالي للقذافي أشد إلحاحا من محاربة القاعدة. نظام القذافي قدم كل أسباب الأستكانة للغرب طمعا في قبول التوبة، لكن الغرب منهجي و عقلاني لا يقبل التوبة من متمرد سابق وشبه نظام ليست له أسس ومعالم سياسة واضحة ومستقرة.

لقد كان تواجد الاسلاميين من أتباع الحركة الجهادية التي يتبنى فكرها بن لادن يزداد بشكل ملفت للنظر والسلاح يقع بين ايديهم، لم تكن ملاحظة الصحفي الفرنسي الجريئ تيري ميسان لوحدها من دق ناقوس الخطر في الغرب، بل كانت صحف أمريكية عدة طرحت الأمر على المسؤولين السياسيين. لم يصدق أحد أن أمريكا والغرب يساندون القاعدة في ليبيا على الأطاحة ب"ملك ملوك إفريقيا". هذه نفس الجماعة الأسلامية الليبية المقاتلة التي قرر مجلس الأمن وضعها ضمن الحركات الأرهابية سنة 1999 تتطهر بسرعة من التهمة ويقع دعمها للأطاحة بالنظام الليبي. وبذلك فقد يكون التوصيف الذي قدمته قناة فرنسا 24 الفرنسية، من خلال تقرير ميداني أظهرت فيه بعض الثوار يحتسون الويسكي في مسامرة على خط النار، من قبيل التشويه لثوار متدينين أو تحييد الرأي العام الغربي الحساس للحركات الجهادية.

ميدانيا لم يظهر في ليبيا بعد ثورتها المظفرة أي أثر لخطاب قاعدي أو تهديد لأمريكا أو الغرب مما تصورهم الناس من أتباع بن لادن. لقد سبق حيا أيمن الظواهري هذه الجماعة في تسجيل صوتي له سنة 2007 وأعلن صراحة أبا ليث الليبي من التنظيم الليبي و من أتباع تنظيم القاعدة أيضا. نعم ظهرت أشكال قد تفهم على أنها من التدين السلفي والتشدد، لكنها أفرزت جماعات جهادية تعمل في إطار تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي لكنها لا تهدد الأن أمن الغرب. رغم إعلان التنظيم تغيير اسمه إلى الحركة الأسلامية الليبية و الأنضواء تحت المجلس الوطني، فأن الخلفية الفكرية لا تتغير في يوم وليلة. مع العلم أن من أهم قياديي الجبهة، عبد الحكيم بالحاج، كان من الأفغان العرب الذين سجنوا في ليبيا بتهم من بينها علاقته القريبة بالملا عمر، كما قبضت عليه المخاربات الأمريكية و سجن في بانكوك. ألمثل هذا تعطي أمريكا السلاح؟

حل اللغز في أسلوب عمل الجنجويد. إنها إطلاق العنان لمن يريد أن يعمل في سياق محدد وتوظيف الحركات توظيفا يتلاءم مع طبيعة المنطق الدخلي الذي يحكمها بإعطائها كل أبعاد تحركها دون أن يكون لها هيكل و تنظيم محكم ومربع محدد للمهام، إنها إحدى أذكى أدوات الفوضى. أنت لا تحتاج إلى أن تطلب من معتوه، والمثال هنا يضرب لتقريب الصورة وليس للجنجويد أو الثورا في ليبيا، أن يخرب و تعلمه كيف يقوم بذلك، فمجرد ترك المجال له ليفعل ذلك هو عين حسن التصرف في مواردك وإمكانياتك. إذا تأخذ حركة القوى الإجتماعية المطلوبة مجراها الطبيعي بمجرد فسح المجال لها للقيام بذلك. فلا الجماعة المقاتلة (الحركة الأسلامية) عملاء لأمريكا وكلاب ظالة تخون وطنها ولا الجنجويد جنود المخابرات الأمريكية. إلى هذا الحد تظهر الحركات الأسلامية بعيدة عن مشهد المؤامرة، كما هو الشان بالنسبة للجنجويد. كل ما في الأمر هو إلتقاء مصالح قد يبدو عفويا و شعبيا ومبررا جدا. والأمر لا يخلو من حسن نوايا إذا ما نظرنا إلى ما يعنيه تسليح أطراف إسلامية ناضلت بالسلاح والذخيرة لقرون من أجل إقامة دولة إسلامية. إنها الوأد الحتمي لتاسيس دولة مدنية ذات تصور ينبع من مشروع حضاري متكامل يصاغ بقلم بعض "المفكرين" المسلمين لا باسلحة المقاتلين. السبب هو أن منطلقات الحركات الجهادية تبقى بعيدة عن تحقيق فهم متوازن لأسس دولة عصرية في مجتمع دولي عولمته التقنيات والارتباطات الأقتصادية قبل أن تنخرط دوله في المنظومة الأقتصادية العالمية بالشكل المريح لها. ‘ن التقسيم التقليدي للمجتمعات عل فسطاطين، حسب تعبير المرحوم أسامة بن لادن، كافر و مؤمن يضع المجموعات من غير المسلمين في خانة الأعداء أو أهل الذمة. إذا في حركتها الطبيعية ستتحول الحركات الأسلامية التي تنعت بالمتشددة إلى قوى معارضة خارج اللعبة الديمقراطية وإلى مجموعات مناوئة تجد في فهمها للنص ما يسمح لها بالانتقال إلى العنف و الجهاد. إن إمكانية أن يقود الصراع إلى عنف وفوضى تبقى قائمة ويبقى فقط على القوى الناسجة لخيوطه ان تعرف كيف تبدأ حركة هذه القوى لتأخذ مسارها الطبيعي. إنها الجنجويد إذا!

بالعودة إلى المشهد التونسي المدني المسالم، والذي قطعت فيه التجربة المدنية خطوة هامة أذهلت كلا من أصحاب عقلية المؤامرة وصناعها على حد السواء، فلم يكن أصحاب نظرية المؤامرة قادرين على تصور وصول النجاح إلى هذا الحد، كما أن أصحاب المؤامرة ممن فقدوا مصالحهم في ظل التوازنات الجديدة يئسوا من عودة المنظومة القديمة. لكن.، وبعيدا عن تصور قوى طواحين الهواء، يظهر المشهد الجنجويدي جليا في التحركات التي تنسب إلى التيار السلفي. بعيدا عن أوجه التشبيه اللاأخلاقي بين حركة السلفيين وغارات الجنجويد للسلب و النهب، يبقى في الصورة ركن مهم يتمثل في إنعدام المرجعية التنظيمية الواضحة والخط السياسي المؤصل الذي يحترم قواعد اللعبة السياسية. برغم وجود تنظيم وقيادات يبقى كثير من الغموض يلف الحركة السلفية الجهادية وغير الجهادية. فيبنما يتمسك قادتها بالعمل السلمي ويتنصلون من الحركات الطائشة والمدبرة ضدهم، يتورط بعض منهم في عمليات تمرير الاسلحة والدعوة إلى العنف، لعل المشهد يذكرنا برسالة الشيخ حسن البنا "ليسوا إخوانا و ليسوا مسلمين" التي تبرّأ فيها من التنظيم الأخواني السري في نهاية الأربعينات من القرن الماضي. إذا أخذنا الصورة على كونها تجسيد لمرحلة نمو طبيعي للحركات قد يصعب فهم الحالة الطفولية لحركة من الحركات الأسلامية بعد مرور ما يقارب القرن على الحادثة الأولى، وبين هذه الصورة الغير متناسقة مع لحظتها التاريحية ومسار التاريخ كمراكمة للتجارب، يبقى الأفق مفتوحا على أخطاء أكثر جسامة وتحركات متناسقة مع طبيعة الحركة السياسية، قد تأخذ كل مداها العنيف بطيبيعة خلفيتها الأقرب الى المقولات العامة منها الى البناء الفكري السليم، وبذلك تختلط حركتها مع مجمل الحركات الطبيعية الأخرى، تلتقي في نفس سياق الفوضى مع شذاذ الآفاق والغزاة وقطاع الطرق من حيث لا تدري. هذا ما قد يحدث لكل حركة تنزلق إلى ساحة العنف واالفوضى أو تساق إليها بحكم العاطفة وعدم ضبط القواعد. قد ينتسب إلى السلفية أي كان ويمثل أي كان دورها بمجرد إمتطائه صهوة جواد مقولات الدينية معينة و تأخذه الحماسة إلى حد نصرة الدين بالجهاد ردا على إستفزاز طلاب الفتن. ليس في هذا إستنقاص من الخلفية الفكرية لطرف ما لكنه سيناريو أصبحنا نرى إمكانية حدوثه وما تصويره بهذا الشكل إلا دعوة إلى العمل باسباب تجنبه. بل قد حدث بالفعل في منزل بورقيبة وسجنان ببنزرت، مع التضخيم الاعلامي. فقد إنتشرت رواية ان البلطجية،مثل الجنجويد، امتطوا صهوة فرسانهم بلبس لحية مفتعلة ليبدو على هيئة السلفيين. فعلا "ألصقت اللعنة بالسلفيين"، لكنهم يبقون جزءا من المشهد.

الجنجويد على فرس الدعوة:

مرة أخرى أوضح أن ما يعنيه المقال بصورة الجنجويد ليس إساءة للأطراف المذكورة بل هو صورة لقوى فسح لها المجال لتعمل بحكم طبيعتها فأنتجت فعلا فيه بذور الفتنة والفوضى من حيث لا تحتسب أو ترغب ربما. يبدو أن فسح المجال لقوى الجنجويد لتحدث مجرا طبيعيا من الفوضى لم يعد مجديا بالآليات السابقة، فظهرت على السطح موجة الدعاة الأسلاميين والمتكلمين من مختلف الاتجاهات. مرة أخرة نحن إزاء حركة عفوية ومبررة لدعاة أتوا ليبلغوا أصواتهم لشعب متعطش إلى فهم دينه بإعتباره مقوما من مقومات هويته. يأتي دعاة من سياق إقليمي مختلف وبشحن عاطفي قوي وكلام متشدد ليقوموا بفتح عقبوي جديد لشمال إفريقيا. لا نريد لإخوتننا أن يخطؤا مثل السيد الصحابي الجليل عقبة ولا أن يلقوا مصيره. نحن أمة واحدة إلا أن ترسبات تاريخ التقزم والخلفية التعليمية و السياق الجيو سياسي جعلت من الأختلافات عاملا يجب مراعاته في المسائل الفقهية كما في السياق السياسي أيضا. وبذلك فإن الدعوة إلى مبارزة الأسلاميين للعلمانيين في شعارات إستفزازية وسباب لايليق بمجتمع مدني متحضر هما دعوة إلى الفتنة. حتى ولو لم يكن الدعاة من طالبي الفتنة فإن التجييش الحاصل من خطبهم التهجمية التي يتصورون أنهم ينصرون بها الدين ويرفعون لواءه، هي تأجيج للمشاعر وخلق لحرب لا مبرر لها ولا تخدم الدين الحنيف في شيئ.

وما أدرانا أن هذه الموجة من الخطباء لا تنقل صراعات الفقه إلى إستقطاب طائفي لسنا في حاجة أليه أو خلق لصراع مذهبي موهوم نتلهّى به في مرحلة دقيقة من تاريخ الأمة حتى يقع الأستفراد بأعدء أمريكا وإسرئيل واحدا واحدا ومن أهمهم قوى المقاومة؟ هذا الأمر بدأت تتجلى ملامحه في ظل حرب باردة بدأت تتأسس ضد إيران. اما من جهة اصحاب الشأن في تونس فإن ترك الأمور تسير على علاتها لعل في ذلك ما يخفف العبئ على الشحن السياسي ضد النهضة أو يرضي قاعد شعبية عريضة تملأ صناديق الأقتراع لصالحها، فهو من قبيل اللعب بأوراق خاسرة. لا أعتقد أن المغزى من السكوت يعبر عن هذه الرؤية بقدر ما هو من دواعي حرية الفكلر.

لا ننسى أن الحركات العفوية لجماعات غير مسؤولة وغير ضابطة لعناصرها أو متعرفة على الدخلاء عنها هي فوضى أخرى لا تقل أذى عن فوضى الجنجويد. ثم أن ترك الحركة الطبيعية للأشياء تتدحرج في مسارها المتاح لها هو عبارة عن تشجيع غيرمباشر على فتنة في حد ذاتها. لعله من المنطقي أيضا الحديث عن نفس العيب التنظيمي الذي تعاني منه الحركات الأسلامية في مجملها والمتمثل في غياب التوصيف الكامل للحركة بما هي و بما ليست هي. أعني بذلك أن يتعرف المنتمون وعامة الناس إلى حدود ومجال الخلفية الفكرية والسياسية للحركة حتى لا يقع الخلط بين الأفهام واللبس بين الخلفيات. إن الرضا المبطن عن أسلوب الدعاة و محتوى تناولهم للشأن السياسي يفهم منه مستوى من التحليل والفهم ويخلط بين ما تطرحه مجمل التيارات الفكرية الأسلامية. فتشجيع قواعد وكوادر حزب ما لهذه الظاهرة لا يتناسق مع الطرح الحداثي للحزب. فطرح مسألة الديمقراطية للتكفير مثلا وفي خطب جماهيرية هو ضرب للمشروع الوطني الذي إلتقت عليه كل القوى السياسية الفاعلة وهدم للبناء الديمقراطي الحديث. فمن الضروري العمل على توضيح ماهية كل حركة بما لها من منطلقات فكرية و عقائدية و بما لا يشمله مجال عملها السياسي. إن السكوت عن الدرجات العالية من النشاز قد يجمع عددا أكبر من المنتمين لكنه في لحظات فارقة من المسيرة يؤدي إلى الأنشطار، برغم الولاء الكبير للمشروع.

في الجانب الأخر من الصورة يقبع ثلة من الحداثيين الذين لم يفيقوا بعد من صدمة نتائج الأنتخابات. أقنعهم تفكيرهم الذي توقف عند زمن الصدام مع "الخوانجية" سنوات الثمانينات بأن الحركة تقع ضمن تصنيفاتهم الأيديولوجية الصارمة كحركة رجعية متحالفة مع قوى الرأسميالة المحلية والعالمية. ، وبذلك لا يمكن لحركة كهذه أن تقود منهج الأصلاح و الخوف كل الخوف من أسلمة الدولة، الأمر الذي يعني بالنسبة للبعض قضاءا على حرياتهم الشخصية وإرتدادا إلى في مستوى الوعي الشعبي العام. برغم كون العنف الثوري كان مبررا من الجميع فإنه والحق يقال كان عنف الجماعات الأسلامية أشد وقعا و ترك في أنفس من عاين تلك الفترة إنطباعا بأن طالبان مرت من هناك. إلا أنه أن يبقى الأنسان حبيس الماضي بأخطاء إرتكبها الجميع أمر غير مبرر. آن الأوان أن ينظر إلى تلك الفترة بشيئ من التصالح والموضوعية.

يمكن أن تمتد حركة الحداثيين لتشمل أطيافا من اليسار ذي الأرتباط بنظام المخلوع وبقايا من المناضلين النقابيين الذين هالهم أن يفقد تؤول الثورة إلى غيرهم وألا يروا ثمار ما قدمته عناصرهم من نضالات نقابية مواكبة لتحركات آخر شهرين في عمر الحاكم السابق. لا ينكر إلا جاحد أن النقابات قامت بمساندة تحركات سيدي بوزيد والقصرين و تالة ثم قبل ذلك، ولو بشكل محدود، تحركات الحوض المنجمي، التي قادها ميدانيا ثلة من مناضلين غير إسلاميين. أمام هذا الأقصاء القانوني و التجييش المتواصل ضدها، ترى هذه القوى مستقبلها في خطر و حركتها في تقلص. بادر البعض بمد قارب النجاة عبر مشاريع مختلفة رأت الفرصة سانحة لتظهر فشل الحكام الجدد وتبعث الروح في المشروع البورقيبي القديم. رغم ما يمكن أن يعنيه إلتقاء كل هذه القوى من منافسة للنهضة و الأحزاب المتحالفة معها، حتى ولو تجلى ذلك في إئتلافهم في تيار أو حزب واحد، فإنها لا تمتلك العمق الشعبي اللازم لتصبح قوة سياسية لها إعتبارها في ظل اللعبة الديمقراطية النزيهة. لكن درجة إندفاع عناصر عدة ضمن هذا التيار الواسع وعدم توفر أسس الحوار الوطني الأيجابي وعدم تخلص النخب من رواسب عقلية الأقصاء والأستئثاريجعل درجة الكره كبيرة والتداعي إلى الثأر ممكنا. مرة أخرى نحن إزاء حركة طبيعية تدفعتها عوامل تتجاوز السياسة إلى المشاعر الأنسانية التي قد تجعل مصلحة البلد في درجة ثانية بعد مصلحة الحزب والفكرة و الفرد. لا يقبع الأمر داخل مربع المؤامرة بقدر ما هو دليل على وجود قوى إجتماعية و سياسية قابلة لأن تتحول حركتها إلى طرف مهم في ميزان الأحداث إذا ما وقع الأنزلاق، لاقدر الله.

يبقى المكون الفكري الثالث والمركزي من حيث الطرح، الغائب عن أضواء الأحداث ومجرياتها غير مساهم في التجاذب القائم لا نئيا بنفسه لكن صوته لا يكاد يسمع من بين الصخب. يقبع التيار القومي العربي في ركن منزو لكنه غير شديد. عصفت الاحداث الأخيرة التي إبتدات بسقوط القذافي وعرجت على ما يقع من مجازر في سوريا بمقولات قومية افسدتها سياسة الأنظمة ولم تواكب الطروحات السياسية المتناحرة. لقد كان الفكر القومي المتأصل أداة مقاومة ومنهج ممانعة في كل المراحل التاريخية للأمة فكان عنوان قومية المعركة والرؤية الشاملة لمجابهة مشاريع الأستعمار والصهيونية ومشروع الوحدة العربية كطوق نجاة للكيانات الجغرافية المتشرذمة. لكن بتكرارها و جمودها تكلست كل هذه المقولات وأصبحت عاجزة عن إستقطاب الرأي العام أو صياغة مشروع لحزب يقنع قاعدته، فيما بالك بإقناع قطاعات شعبية أوسع من غير المثقفين والمنتمين. صحيح أن عامة القوى الشعبية تساير خطابا يلامس مشاعرها وإحتياجاتها ومدى فهمها المحدود أحيانا بدل الخوض في أسس فكرية شاقة المنال مثل "نظرية الثورة العربية" للمرحوم عصمت سيف الدولة، لكن يبدو أن آليات تحليل وخطاب التيار القومي لم تعد تهيمن على الموقف الحالي، رغم محورية قومية المعركة، إستلهم التيار الاسلامي هذه الفكرة ووظفها ويسوقها ضمن الطرح الأسلامي الجديد الذي "إفتك" من القوميين عروبيتهم، بعد الألتقاء ضمن المؤتمر القومي الأسلامي في بيروت قبل نهاية القرن الماضي، وأصبح مدافعا عن الهوية بشكل متوازن لا يكرر مقولات الأسلمة قبل العروبة التي كان يرددها زمن الثمانينات. كان من المفروض أن نرى تقاربا أفضل بينهما ودورا أهم لمسألة القومية في فكر الأسلاميين. كما أن الحركة القومية في كثير من جوانبها بقيت حركة ثقافية تنشر الوعي بقضايا الأمة و تعمل على تثقيف عناصرها بدل العمل في السياسة بشكل كامل. قضت الأنظمة الرافعة للألوية القومية تقريبا على البعد الشعبي للتنظيمات القومية، وهو ماكان متوقعا بعد حرب الخليج الثانية بصفة أوضح، فلم تقف ليبيا القذافي موقف المساند للعراق في حربه وتخلت حتى عن دعمها لكل الحركات الثورية. يضاف إلى كل هذا غياب الزعامة التي يجمع عليها عامة القوميين لتجعل منهم كيانا موحدا يستعيد صوته في خضم الجدال القائم على الأقل. وولئن أصبح الطرح الأسلامي هو سمة العصر فأن الحركة القومية لابد ان تعيد صياغة أدبياتها وتحيين مصطلحاتها إن أرادت البقاء. لعل الوضعية الحالية الهزيلة للقوميين هو ما يجعلهم خارج سياق الحركات التي ما أن تاخذ وضعها الطبيعي وتتاح لها الحركة حتى تصبح جزءا من خلط الأوراق والتصادم الذي تتسارع بإتجاهه أكثر القوى السياسية والأجتماعية.

يبقى جانب مهم من الخارطة لا يخضع لأنتماءات أو حسابات سياسية بقدر ما يرجح الكفة في أي إتجاه شاء ويحرك دفة الأحداث، إنها مسرح عمل قوى الجنجويد في مجتمعاتنا والجانب المتأثر بمجمل أفعالهم. تبقى الساحة الشعبية بكل ما تتركه التجاذبات السياسية والتوظيفات الحزبية، بل وحتى الأستعطاف الحزبي قبل الأنتخابات من قبيل إملئ المعدة يستحي الفم، بعيدة عن السيطرة والتقدير. إنتفضت الساحة الشعبية بدون تاطير حزبي معين وإقتلعت جذور النظام السابق في وقت كان فيه البعض يتحدث عن يأسه من الشعب بحكم فساد الماكينة الحاكمة الصانعة له.

إلا أنه بسبب غياب الحس الوطني المسؤول وإنفلات الحركة من عقالها بعد أن كبلتها أيد القهر البوليسي لعهود، اصبح التحرك الشعبي في أحيان كثيرة غير مامون العواقب لما قد يفضي إليه من شحنات التفريغ والثأر من مؤسسات قهرته بإسم دولة القانون وهيبة الدولة. حتى أضاعت منه كل حس وطني و أصبح الربح الآني للفرد أهم من حماية الدولة ومؤسساتها. بالنسبة لقطاع واسع من الشعب الدولة تعني المغنم الذي إستاثرت به أقلية وحرم هو من نصيبه، وكل فرصة لنيل نصيبه مبررة مهما كانت الوسيلة. قطعا، هذه ليست عقلية المواطنة ولا هي بالعقسدة التي تبني وطنا. مع إزدياد الأحوال المعيشية سوءا وتدخل أباطرة الاستغلال والأحتكار ليثروا على حساب لقمة الشعب، إزداد التفكير بما هو أنٍ وذاتي وظهرت الشكوى بمرارة بعد سنين من الكتمان والمعاناة الصامتة. ظهرت صورمن الفقر الشديد عمل أعلام المخلوع على عدم الألتفات إليها. قتامة هذه الصور لا يكمن في غرابتها بقدر ما يظهر عجز المجتمع المدني، قبل الدولة، على معالجتها. هذه الصور ليست غريبة على مجتمعات الأرياف التي هيمن عليها الفقر وشظف العيش عهودا كانت فيه حبات القمح نادرة في مجتمعات الخماسة بصفة خاصة. لكن غياب آليات التدخل في تلك الفترة حالت دون القضاء على هذه الظاهرة. أما اليوم، فإن المجتمع بحاجة إلى تكوين جمعيات تتدخل ميدانيا اين تعجز أليات الدولة على الفعل مباشرة و بشكل عاجل وتسدّ منافذ العوز والمعاناة. لقد قامت بعض الجمعيات بدور فاعل في مساعدة الناس خلال موجة البرد التي إشتدت في شهر فيفري 2012 في مناطق الشمال الغربي. في نفس الوقت يمكن أن تتدخل أليات الجمعيات المدنية التطوعية لضمان وصول صوت الناس المعزولين بحكم الجغرافيا و قلة الأمكانيات إلى أجهزة الدولة، في هذا السياق أدعو إلى المساعدة عل بعث جمعية لمحاربة الأقصاء والتهميش كفكرة في أذهان الناس وكممارسة لايزال قطاع كبير من الموظفين والعقليات الأدارية تمارسها يوميا. إن محاربة الاٌقصاء والتهميش سيقلل من تاثير بقية القوى السياسية والأجتماعية في الأوساط الشعبية العريضة. في غياب تأطير مباشر و تناول جدي لمشاكل الناس تبقى التحركات الشعبية قابلة للتحول إلى جسم ينساق إلى الفوضى في ظل الواقع المعيشي الصعب والأستقطاب السياسي النشيط.

مرة أخرى يكبر التحدي بتعدد قوى ظاهرة الجنجويد، لكن البناء الثابت لابد أن يتعرض إلى العواصف ليثبت قدرته على الصمود.



[1] http://en.wikipedia.org/wiki/Janjaweed

[2] نفس المصدر السابق