مجاوزة اللزوم

Monday, February 27, 2012

في مسألة الأسلام السياسي من جديد، من تصيّد السحرة[1] إلى أيقونة العصر

في مسألة الأسلام السياسي من جديد،

من تصيّد السحرة[1] إلى أيقونة العصر.

يستعمل مصطلح تصيد السحرة witch huntingفي سياق لجنة السيناتور الأمريكي ماكارثي في سنوات الخمسينات التي عهد إليها بالبحث عن المندسين من الأمريكان المساندين للمد الشيوعي. عرفت هذه اللجنة بالتجاوزات الضخمة في حقوق الأنسان والتنكيل والتعسف في الأتهامات الغير قانونية في حق العديد من الامريكان. وكتب عنها بأسلوب السخرية والتعريض الشديد عديد من المثقفين من أمثال أرثر ميلر في مسرحيته الشهيرة البوتقة (The Crucible).

في مثل لجنة جوزيف ماكارثي، إتخذت الحرب على الإرهاب المتمثلة في محاربة المتشددين الإسلاميين شكل التضييق على مظاهر التدين والإنتماء إلى الأسلام. فقد كان يكفي التردد على المساجد بكثرة وإطلاق اللحية لكي يصبح الفرد في موقع شبهة. وكما الإتهام بممارسة السحر، فإن الأتهام بممارسة ودعم الأرهاب أصبح محاكمة للفرد على نواياه وترتيبا لسيل من الاستنتاجات التي قد تضع أي شخص في حكم الأرهابي. لقد كان وضع الخوف وفشل الأليات البوليسية وبث الرعب وإنعدام الأمن السمات البارزة لكلتا الحالتين. ففي المثالين، يعود الخوف إلى قوى مجهولة تعمل بآليات التخفي والمباغتة. لذلك إعتقد العقل المكارثي أن الحيلة تكمن في المبادرة والهجوم ولو بتجاوز القانون كما حصل في البشاعات التي أرتكبت في قوانتانامو وغيره من السجون السرية التي كان ينقل إليها المشتبهون الذين يقبض عليهم كغنائم حرب من مخابرات دول مثل باكستان. لقد أوغل أباطرة الصيد في جمع أكبر عدد ممكن من المتهمين و بيعهم لآلة التعذيب والتنكيل. لقد كان موسم الصيد مدمّرا لأرواح عديد الابرياء ولكنه عبّر عن نمط من التعامل غير الغريب على التاريخ الأمريكي مع الأعداء وأيضا مع من يقع في شبكة صيد الأعداء. كما أنها حرب دينية بأمتياز من منظور الغرب، كما عبر عنها بوش في زلة لسان مقصودة! واصاب الهلع الشديد الحكومات أكثر من الأفراد.

من جديد لم تفلح حملات الصيد البشري في إقتلاع الخوف من الأسلاميين بل فشل المشروع الأرعن في إفغانستان والعراق وعوض أن يوفر الحماية لأمريكا وإسرائيل،أصبح الطرف الأخطر في قوى المقاومة الواعية أكثر سيطرة على مشهد التوازن في المنطقة. بل إستغلت إيران الصفقات للعمل في مشروعها النووي وتبني توازن يمنع أمريكا من المرور إلى المنطقة إلا عبر بوابتها. فبدل التخلص من الخطر الاسلامي وضرب أسباب القوة في العراق ونشر الفوضى الخلاقة، عملت قوى ذكية و عنيدة في المقاومة على ضرب التوازن الأقليمي بهزيمة صيف 2006: المعركة التي عجز فيها جيش العدو عن التقدم لأمتار مرات في جنوب لبنان و أندحر أمام ضربات المقاومة، ثم يكرر العجز ذاته أمام كيان سياسي أضعف في غزة فيفشل في إقتحام مدينة هدمها الفسفور الابيض إلاّ من مجاهدين مرابطين. لم تكن النتائج لتقف عند حد فشل العسكر، بل فشل مشروع الخنق في غزة وإنهار الجيش الذي لا يهزم في فلسطين المحتلة وبدأ التشكيك في العقل والمعدات والمعنويات بحسب تقرير فينوغراد الأسرائيلي نفسه. الصيد هذه المرة بأيد اسرئيلية لكنه ضمن خط أمريكي أيضا تآمرت فيه الدول العربية سكوتا، لعبا تحت الطاولة، مباركة أو حتى مشاركة. وسكتت أصوات عديد المفتين ورجال الدين تحت عنوان ضرب الشيعة جائز بالمداراة أحيانا و خراسا حينا آخر. لكنهم لم يجدوا مبررا عندما قصفت غزة غير الشيعية! في الحالتين ينال الصيد، صيد الأعداء للسحرة، حركتين إسلاميتين مقاومتين هما حزب الله وحماس. وفي نفس السياق تشن الغارات على المدنيين في إفغانستان لصيد بعض أبناء القاعدة وطالبان ضمن الأطفال والشيوخ والمدنيين العزل. لا ينال الصيد كل المسلمين طبعا، بل يستثنى منه كل من سالم وهادن وبارك المشروع السياسي وسكت عن الظلم في العراق مثلا.

فلمن لا يرى من خلال الغربال[2] ولايزال ينظر إلى المسألة بعين الأستقطاب المذهبي مثلا، كل من كتائب الصدر وحزب الله شيعة. الأول طرف في التطاحن المذهبي وأداة ذبح بها كثير من العراقيين، الثاني حزب مقاوم و فصيل سياسي حرر أراضي عجزت عنها الجيوش النظامية وأسرى عجزت عنهم جلسات السلام الحميمية. توقفت آلية التحليل بالمذاهب إذا! ولا غرابة أن يطال الصيد الأمريكي حزب الله دون كثير من التنظيمات الأسلامية الشيعية. في المحصلة حملة الصيد تخيّرت القوى الفاعلة وإستهدفت المشروع الاسلامي سواءا أكان تننظيما عالميا أو حزبا سياسيا يعمل داخل حدود بلده.

لكن الناظر إلى مابعد الثورات العربية يلحظ غيابا لأسلحة الصيد في التعامل مع الأحزاب الأسلامية الصاعدة في المشهد السياسي. ضمن الصورة التي رسمها المفكر الألسني ناعوم تشومسكي, لا يمكن أن تبارك أمريكا الثورات، فهي تلتف عليها بإخفاء البندقية ورمي الانشوطة. فلماذا تصطاد أمريكا إسلاميا و تترك آخر؟

مثلت الأحزاب الأسلامية أيقونة عصر مابعد الثورات لأسباب وقع تناولها فيما قبل لعل أهمها آليات التحليل السياسي لدى غالبية الناس التي تتسم بالوثوقية في أي مشروع إسلامي حتى قبل فهمه. و كذلك تمكن بعض هذه الأحزاب من بلورة مشروع هوية ومرجعية متأصلة في وجدان الأمة. وبما أنه حاز على رضا الناس، لم يعد مجديا محاربة شرعية الثورات بقدر ما يقتضي الحال مسايرتها والعمل من داخل أنظمتها. ومن جهة أخرى لم يعد بإمكان أية أطراف سياسية أخرى من الوسطية البرغماتية إلى الراديكالية الهيمنة على المشهد السياسي. فلغة التجييش الديني والمذهبي والفقهي القائمة بفعل فاعل ستبقى عاملا مهما في تحييد أي طرح آخر. بذلك يصبح خلق الأيقونة الاسلامية بإختلاف درجات وسطيتها ضاربا لكل طرح متوازن حتى من داخل المنظومة الأسلامية نفسها. نظرا لما تمثله المرجعية الدينية من بعد كبير في شخصيتنا، تبقى الركن المتحكم في صياغة أي موقف من الشأن العام والذي من خلاله تقيم تجارب الحكم والعاملين في الشأن السياسي. وبما أننا كمسلمين مشاريع أفهام ومرجعيات مختلفة حتى في داخل المذهب الواحد، فإن التجاذب يمكن أن يحتد كل مرة بين حدّي السلفية والمشروع الأسلامي المدني مثلا. يضاف إلى هذا طبيعة الحركات الأجتماعية في هذه المرحلة والمستوى التعليمي الموروث عن دولة الفساد في الأنظمة السابقة. وبذلك لم يعد الاسلام السياسي مشروعا يقتضي الصيد بأدوات الحرابة بقد ما أصبح مشروع تصيّد بآليات السياسة والأحتواء.

الملفت للنظر أن الثورات التي قامت كانت في أكثرها برعاية إعلامية خاصة من قنوات عربية معي!نة وبتدخل من الدول الغربية في بعض الأحيان، سواءا عسكريا في ليبيا و سياسأو سياسيا كما في اليمن وسوريا إلى حد اللحظة. بعيدا عن نظرية المؤامرة التي قد تذهب بعيدا في إعطاء بعض الأطراف الأقليمية دورا فوق طاقتها في إدارة الثورات، يبقى الدور الخارجي عاملا ثانويا من حيث الأسباب والنتائج. فقطر مثلا ليست نظاما أو بلدا يصنع الثورات ويلهمها ولا هي في موقع المدير لها. مرة أخرى أذكّر بدور العوامل الطبيعية المؤدية إلى قيام الثورات وإلى المؤثرات النفسية التي سآتي على ذكرها في سياق موضوع الهمة لاحقا. لعل من دواعي إحترامنا للتحركات الأجتماعية التي طالما حلمنا بها والنأي بتفكيرنا عن الغيبيات في السياسة أن ندع ما يريب إلى ما لا يريب. الدعوة إلى ترك ما لا يمكن إثباته بالوقائع والحيثيات والشواهد يفسح المجال إلى التحليل المنطقي الممنهج الذي يمكننا من تأصيل النظرة وفهم الواقع بشكل صحيح.

إذا، شملت الثورات رعاية خاصة لا تخلو من التساؤل والأتهام، خاصة وأن النتائج التي أفضت إليها إلى الآن هي تمكين الأحزاب الأسلامية من السلطة عبر إنتخابات نزيهة. يبدو أن المرجعية الدينية تجندت هي الأخرى لتعلن بلغة السياسة وعمامة الدين تأييدها لقوى الثورة في سياق ثورات بعينها. بدون أن ننظر إلى الأمر بعين إحكام قوى المؤامرة، يظهر جليا أن فسح المجال لمفت من وزن الشيخ القرضاوي ليخوض في السياسة بغير آلياتها لم يكن سوى ردفا للموقف السياسي ومساندة له بالمرجعية الدينية. لا ضير أن يصبح شيوخ العلم مساندين لحركة الشارع مادام فيها تحقيق لمصلحة عامة ودفع لمفسدة مطلقة تمثلها الأنظمة العربية العاجزة. لكن إعلان موقف سياسي بمصطلحات الدين للعمل على إسقاط نظام وغض الطرف على آخر يجعل الأمر مريبا ولو صدر من شخص في مستوى شيخ كنا بالامس نبارك مساندته لحريتنا الدينية في بلد كتونس ودفاعه عن الخط الوسطي المنفتح في الفقه. إعلان نهاية القذافي ومؤازرة الثورة السورية لا يتكرر مع الثورة البحرينية، ثورة طلب فيها الشعب حريته ورفع شعار "لا سنة ولا شيعة" الذي أسقط في كثير من التغطيات التلفزية ليظهر التحرك كمؤامرة إيرانية صرفة. لم تأخذ الثورة طابعا مذهبيا ولا حتى دينيا. لكنها كانت ستمثّل نقطة تحوّل في مصير الأنظمة التقليدية في المنطقة.

كانت الثورات تقود في كل مرة إلى سقوط الأنظمة وصعود قوى سياسية إسلامية، تباركها بعض وسائل الأعلام وتحتضنها بعض الدول، لكن يعلن الغرب عن إمتعاضه. لو سلمنا بأنها الديمقراطية وحرية الشعوب في تقرير مصيرها لكان علينا أن نرى نفس الموقف يتكرر مع الثورة البحرينية والتحرك الشعبي المهم، والذي نعت بالتململ الشيعي، في شرق السعودية. لم يبارك القرضاوي ثورة البحرين بل إعتبرها ثورة طائفية مصادرا بذلك حق الناس في بناء وطنهم بسبب إنتماءهم المذهبي. إن الخلط بين التأثير الأيراني الواضح في ديمغرافيا و سياسة دول الخليج بإعتبارها جزءا من مجالها الحيوي لايعني أن نسلب الشيعة في هذه الدول الحق في المواطنة. فلكونك شيعيا يمكن أن تأتمر بالمرجعيات الشيعية في قم أو حتى تعلن ولاءك لها لا يبيبح مصادرة حقك. مرة أخرى نخلط بين الأشياء فبدل أن نصنع مجالا حيويا يوازي المجال الأيراني، نرد على سياسته الممنهجة بتهم التدخل. لكل دولة الحق في صياغة مجالها الحيوي، لكن للدول الأخرى الحق في رفضه وإلزامها بمجال آخر أكثر واقعية. لا يرد العاقل على مشروع سياسي بمجرد التهم.

لم يغضب الغرب لقدسية حقوق الأنسان ولم ينتصرلمدنية الثورة بل ترك المجال للمعالجة الداخلية الأمنية البحتة لأن مصير الأنظمة التقليدية المتحالفة معه في الميزان والمد الشيعي بدأ يعطي عمقا آخر للدور الأيراني. المهم إذا إعتبرناها حركة دينية، فإن إقصاءها لا يعود إلى إسلاميتها بل بعلّة السياسة والمصالح. إما إذا إنخرطنا في القراءة المذهبية ولو منهجيا نرى أن الثورات السنية لا الشيعية هي المطلوبة على ما يبدو.

إذا نحن إزاء مشهد تتكثف فيه التناقضات حتى تفقد أنساق الفهم التقليدي مبررات إستعمالها. لقد بدأت تتشكل ملامح مرحلة جديدة لمجتمع دولي مثقل بأعباء الأقتصاد وبإنسداد للأفق لم تفلح فيه ترقيعات ضخ الأموال في الأقتصاديات المتهالكة. كما أن آليات التحكم وضبط مسارالأحداث تغيرت بتغير إستراتيجية التحكم ذاتها. مع أرتفاع تكلفة التدخل المباشر أصبح نظام التوكيلات والفرنشايز أجدى وأكثر تحكما في الموارد المالية والبشرية. كما أنه اضمن من حيث العواقب والتداعيات في حال الفشل. لقد رأينا هذه الملامح في عمل الشركات الأمنية في حرب العراق. ونراها الآن في تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة العربية. عوض إعلان الحرب على الحركات الأسلامية الصاعدة، تتولى الدول الغربية تدجينها وإستغلال الجدل الذي يخلقه وجودها في السلطة، مع ضمان وجود قوى إجتماعية قادرة على خلق الفوضى وإفشال المشروع متى تجاوز الخطوط الحمراء. لا يمكن أن نشك يوما في أن مساندة قوى المقاومة في فلسطين ولبنان يزعج امريكا بنفس القدر الذي يؤلم به إسرائيل. لذلك فإنخراط الأنظمة الجديدة في أي مشروع يدعم المقاوم ويطرحها كبديل عن مشروع حلب البقرة الميتة الذي يسمونه مسار السلام في الشرق الأوسط غير مسموح به من جهة المعسكر الغربي عموما. ولا يمكن تصور أي شكل من منافقة الغرب لنفسه بالرضا عن هذه الأنظمة وتدعيمها بالمال لأنقاض إقتصادياتها والسماح لها بتاسيس مشروعها الأسلامي. كل ما في الأمر هو مد لطوق النجاة من الجهتين وإستعمال لأداة الأنشوطة بدل الأسلحة التقليدية.

إن التعويل على الأيقونة الأسلامية كما يريد الغرب صياغتها في هذه المرحلة هو ضرب للمشروع المدني الحداثي بمرجعياته الأسلامية والعلمانية. إذ أن ما نشاهده من ردود فعل مستفزّة من مجموعات علمانية ومن ظهور لجماعات ترتدي اللحية يوم واقعة العنف وتستعدي كل مخالف غير منطقي في دول ثارت من أجل الحرية. كيف لثائر من أجل الحرية أن يحتكرها في اليوم الموالي للثورة؟ لا تبنى المجتمعات بدعاوي الأقصاء ولا بالقوى التي لا تقرأ الخارطة السياسية بوضوح. نحن بحاجة إلى جعل الأيقونة الأسلامية مشروعا فكريا حداثيا جامعا لا منفّرا وتحويلها إلى عمل سياسي واع وومنهج ومتناسق لا مجرد عمل برقماتي صرف أقصى مبتغاه أن ينقذ نفسه من الفشل في أول تجربة حكم.



[1] http://en.wikipedia.org/wiki/McCarthyist

[2] مقتبسة من الأغنية المعروفة: ألي ماشاف من الغربال.

Thursday, February 23, 2012

بدعة الجنجويد

3- بدعة الجنجويد[1]

الكل يتذكر مصطلح الجنجويد في الصراع غرب السودان، لكن الجميع تقريبا خاصة من غير المتابعين لمسألة دارفور يتصور أن الجنجويد هم قبيلة أو مجموعة عرقية في المجتمع السوداني، بل أن الأمم المتحدة نفسا عرفتهم على أنهم عرقية منتشرة في مناطق أفريقية أخرى[2]، والحال أن الكلمة تعني كل من ركب ذا حافر أو اذا خف وغزا ليلا أو نهارا طلبا لمغنم و سلب. بقطع النظر عن الخلفية القبلية والاجتماعية لهذه الفئة فأن المدهش هو حشرها في عنوان واحد وكانها من أصل قبلي واحد أو على الاقل من قبيل واحد. يقدمها الأعلام على كونها حركة واحدة و الحال ان لاعرق يجمع بينها. أما المريب في هذا الامر هو كونها جماعات بدون قيادة أو مرجعية واحدة تضبطها وهو مايتجعلها في منأى عن كل إنضباط او مسار أو تتبع.

إن ظاهرة الجنجويد لا تعبر عن نظرية المؤامرة بقدر ما هي تآمرطبيعي إلتقت عنده عناصر الفتنة التي يريدها الطرف المدبّر وإطلاق العنان لعناصر منفلتة لتقوم بعمل تخريبي يتناسب مع طبيعتها دون الحاجة إلى تكليف بمهمة. يتلخص التآمر في تمكين قوى التخريب والنهب والخروج عن القانون من الانفلات واستعمال أدواتها بمفردها و ذلك بتعزيز سبل نجاحها في تجاوز آليات حفظ النظام، إختراق العناصر الفاعلة فيها وإخراجها إعلاميا على كونها رمز تمرد شعبي ومؤشر على غياب سيطرة الدولة. بإختصار، هي إحدى علامات الفوضى الخلاقة. ليس هذا من قبيل استبطان المؤامرة ولا القول بأن طرفا بعينه يحرك الأحداث بقدر ما هو محاولة لفهم آلية عمل القوى الأجتماعية القابلة لإنفلات عندما تشعر أنها لا تخضع لمراقبة القانون ولا لعامل أو محرك خارجي مباشر. قد تكون محقة في قولها أنها ليست جزءا من المؤامرة، لكن ترابط العوامل على الأرض بحكم طبيعتها أكثر فاعلية من العناصر المتحركة فيه.

إن إستعمال مثال الجنجويد لا يعني أن الأمثلة المذكورة تمثل عناصر نهب و سرقة أو هي خارجة عن القانون أو أي شكل أخلاقي آخر بقدر ما تعني أن هذه القوى الإجتماعية لا تعي تفاعل حركتها في مجمل القوى السياسية في المنطقة وفي العالم وهي ،بحكم المناخ العام أو نقص وعي بعض أطرافها أو إنضباطهم، تتحرك بشكل طبيعي قد يتناسق مع خلفيتها الفكرية لكنه لا يعي مقتضيات العمل في المرحلة.

إن الناظر إلى مجمل الحركات الأجتماعية في الدول بعد الثورات يلاحظ صعودا غير مسبوق لعناصر من الأعداء التقليديين للدول الغربية، تلقت في أغلب الأحيان ترحيبا، بل ودعما مباشرا لها بالسلاح. المشهد الليبي يطفح بهذا المعنى بشكل جلي. لم تكن القوى الغربية بهذا المستوى من الغباء حتى تمد السلاح إلى أعداء الأمس القريب، بل وحتى اليوم. ولم تكن الأطاحة بالنظام البالي للقذافي أشد إلحاحا من محاربة القاعدة. نظام القذافي قدم كل أسباب الأستكانة للغرب طمعا في قبول التوبة، لكن الغرب منهجي و عقلاني لا يقبل التوبة من متمرد سابق وشبه نظام ليست له أسس ومعالم سياسة واضحة ومستقرة.

لقد كان تواجد الاسلاميين من أتباع الحركة الجهادية التي يتبنى فكرها بن لادن يزداد بشكل ملفت للنظر والسلاح يقع بين ايديهم، لم تكن ملاحظة الصحفي الفرنسي الجريئ تيري ميسان لوحدها من دق ناقوس الخطر في الغرب، بل كانت صحف أمريكية عدة طرحت الأمر على المسؤولين السياسيين. لم يصدق أحد أن أمريكا والغرب يساندون القاعدة في ليبيا على الأطاحة ب"ملك ملوك إفريقيا". هذه نفس الجماعة الأسلامية الليبية المقاتلة التي قرر مجلس الأمن وضعها ضمن الحركات الأرهابية سنة 1999 تتطهر بسرعة من التهمة ويقع دعمها للأطاحة بالنظام الليبي. وبذلك فقد يكون التوصيف الذي قدمته قناة فرنسا 24 الفرنسية، من خلال تقرير ميداني أظهرت فيه بعض الثوار يحتسون الويسكي في مسامرة على خط النار، من قبيل التشويه لثوار متدينين أو تحييد الرأي العام الغربي الحساس للحركات الجهادية.

ميدانيا لم يظهر في ليبيا بعد ثورتها المظفرة أي أثر لخطاب قاعدي أو تهديد لأمريكا أو الغرب مما تصورهم الناس من أتباع بن لادن. لقد سبق حيا أيمن الظواهري هذه الجماعة في تسجيل صوتي له سنة 2007 وأعلن صراحة أبا ليث الليبي من التنظيم الليبي و من أتباع تنظيم القاعدة أيضا. نعم ظهرت أشكال قد تفهم على أنها من التدين السلفي والتشدد، لكنها أفرزت جماعات جهادية تعمل في إطار تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي لكنها لا تهدد الأن أمن الغرب. رغم إعلان التنظيم تغيير اسمه إلى الحركة الأسلامية الليبية و الأنضواء تحت المجلس الوطني، فأن الخلفية الفكرية لا تتغير في يوم وليلة. مع العلم أن من أهم قياديي الجبهة، عبد الحكيم بالحاج، كان من الأفغان العرب الذين سجنوا في ليبيا بتهم من بينها علاقته القريبة بالملا عمر، كما قبضت عليه المخاربات الأمريكية و سجن في بانكوك. ألمثل هذا تعطي أمريكا السلاح؟

حل اللغز في أسلوب عمل الجنجويد. إنها إطلاق العنان لمن يريد أن يعمل في سياق محدد وتوظيف الحركات توظيفا يتلاءم مع طبيعة المنطق الدخلي الذي يحكمها بإعطائها كل أبعاد تحركها دون أن يكون لها هيكل و تنظيم محكم ومربع محدد للمهام، إنها إحدى أذكى أدوات الفوضى. أنت لا تحتاج إلى أن تطلب من معتوه، والمثال هنا يضرب لتقريب الصورة وليس للجنجويد أو الثورا في ليبيا، أن يخرب و تعلمه كيف يقوم بذلك، فمجرد ترك المجال له ليفعل ذلك هو عين حسن التصرف في مواردك وإمكانياتك. إذا تأخذ حركة القوى الإجتماعية المطلوبة مجراها الطبيعي بمجرد فسح المجال لها للقيام بذلك. فلا الجماعة المقاتلة (الحركة الأسلامية) عملاء لأمريكا وكلاب ظالة تخون وطنها ولا الجنجويد جنود المخابرات الأمريكية. إلى هذا الحد تظهر الحركات الأسلامية بعيدة عن مشهد المؤامرة، كما هو الشان بالنسبة للجنجويد. كل ما في الأمر هو إلتقاء مصالح قد يبدو عفويا و شعبيا ومبررا جدا. والأمر لا يخلو من حسن نوايا إذا ما نظرنا إلى ما يعنيه تسليح أطراف إسلامية ناضلت بالسلاح والذخيرة لقرون من أجل إقامة دولة إسلامية. إنها الوأد الحتمي لتاسيس دولة مدنية ذات تصور ينبع من مشروع حضاري متكامل يصاغ بقلم بعض "المفكرين" المسلمين لا باسلحة المقاتلين. السبب هو أن منطلقات الحركات الجهادية تبقى بعيدة عن تحقيق فهم متوازن لأسس دولة عصرية في مجتمع دولي عولمته التقنيات والارتباطات الأقتصادية قبل أن تنخرط دوله في المنظومة الأقتصادية العالمية بالشكل المريح لها. ‘ن التقسيم التقليدي للمجتمعات عل فسطاطين، حسب تعبير المرحوم أسامة بن لادن، كافر و مؤمن يضع المجموعات من غير المسلمين في خانة الأعداء أو أهل الذمة. إذا في حركتها الطبيعية ستتحول الحركات الأسلامية التي تنعت بالمتشددة إلى قوى معارضة خارج اللعبة الديمقراطية وإلى مجموعات مناوئة تجد في فهمها للنص ما يسمح لها بالانتقال إلى العنف و الجهاد. إن إمكانية أن يقود الصراع إلى عنف وفوضى تبقى قائمة ويبقى فقط على القوى الناسجة لخيوطه ان تعرف كيف تبدأ حركة هذه القوى لتأخذ مسارها الطبيعي. إنها الجنجويد إذا!

بالعودة إلى المشهد التونسي المدني المسالم، والذي قطعت فيه التجربة المدنية خطوة هامة أذهلت كلا من أصحاب عقلية المؤامرة وصناعها على حد السواء، فلم يكن أصحاب نظرية المؤامرة قادرين على تصور وصول النجاح إلى هذا الحد، كما أن أصحاب المؤامرة ممن فقدوا مصالحهم في ظل التوازنات الجديدة يئسوا من عودة المنظومة القديمة. لكن.، وبعيدا عن تصور قوى طواحين الهواء، يظهر المشهد الجنجويدي جليا في التحركات التي تنسب إلى التيار السلفي. بعيدا عن أوجه التشبيه اللاأخلاقي بين حركة السلفيين وغارات الجنجويد للسلب و النهب، يبقى في الصورة ركن مهم يتمثل في إنعدام المرجعية التنظيمية الواضحة والخط السياسي المؤصل الذي يحترم قواعد اللعبة السياسية. برغم وجود تنظيم وقيادات يبقى كثير من الغموض يلف الحركة السلفية الجهادية وغير الجهادية. فيبنما يتمسك قادتها بالعمل السلمي ويتنصلون من الحركات الطائشة والمدبرة ضدهم، يتورط بعض منهم في عمليات تمرير الاسلحة والدعوة إلى العنف، لعل المشهد يذكرنا برسالة الشيخ حسن البنا "ليسوا إخوانا و ليسوا مسلمين" التي تبرّأ فيها من التنظيم الأخواني السري في نهاية الأربعينات من القرن الماضي. إذا أخذنا الصورة على كونها تجسيد لمرحلة نمو طبيعي للحركات قد يصعب فهم الحالة الطفولية لحركة من الحركات الأسلامية بعد مرور ما يقارب القرن على الحادثة الأولى، وبين هذه الصورة الغير متناسقة مع لحظتها التاريحية ومسار التاريخ كمراكمة للتجارب، يبقى الأفق مفتوحا على أخطاء أكثر جسامة وتحركات متناسقة مع طبيعة الحركة السياسية، قد تأخذ كل مداها العنيف بطيبيعة خلفيتها الأقرب الى المقولات العامة منها الى البناء الفكري السليم، وبذلك تختلط حركتها مع مجمل الحركات الطبيعية الأخرى، تلتقي في نفس سياق الفوضى مع شذاذ الآفاق والغزاة وقطاع الطرق من حيث لا تدري. هذا ما قد يحدث لكل حركة تنزلق إلى ساحة العنف واالفوضى أو تساق إليها بحكم العاطفة وعدم ضبط القواعد. قد ينتسب إلى السلفية أي كان ويمثل أي كان دورها بمجرد إمتطائه صهوة جواد مقولات الدينية معينة و تأخذه الحماسة إلى حد نصرة الدين بالجهاد ردا على إستفزاز طلاب الفتن. ليس في هذا إستنقاص من الخلفية الفكرية لطرف ما لكنه سيناريو أصبحنا نرى إمكانية حدوثه وما تصويره بهذا الشكل إلا دعوة إلى العمل باسباب تجنبه. بل قد حدث بالفعل في منزل بورقيبة وسجنان ببنزرت، مع التضخيم الاعلامي. فقد إنتشرت رواية ان البلطجية،مثل الجنجويد، امتطوا صهوة فرسانهم بلبس لحية مفتعلة ليبدو على هيئة السلفيين. فعلا "ألصقت اللعنة بالسلفيين"، لكنهم يبقون جزءا من المشهد.

الجنجويد على فرس الدعوة:

مرة أخرى أوضح أن ما يعنيه المقال بصورة الجنجويد ليس إساءة للأطراف المذكورة بل هو صورة لقوى فسح لها المجال لتعمل بحكم طبيعتها فأنتجت فعلا فيه بذور الفتنة والفوضى من حيث لا تحتسب أو ترغب ربما. يبدو أن فسح المجال لقوى الجنجويد لتحدث مجرا طبيعيا من الفوضى لم يعد مجديا بالآليات السابقة، فظهرت على السطح موجة الدعاة الأسلاميين والمتكلمين من مختلف الاتجاهات. مرة أخرة نحن إزاء حركة عفوية ومبررة لدعاة أتوا ليبلغوا أصواتهم لشعب متعطش إلى فهم دينه بإعتباره مقوما من مقومات هويته. يأتي دعاة من سياق إقليمي مختلف وبشحن عاطفي قوي وكلام متشدد ليقوموا بفتح عقبوي جديد لشمال إفريقيا. لا نريد لإخوتننا أن يخطؤا مثل السيد الصحابي الجليل عقبة ولا أن يلقوا مصيره. نحن أمة واحدة إلا أن ترسبات تاريخ التقزم والخلفية التعليمية و السياق الجيو سياسي جعلت من الأختلافات عاملا يجب مراعاته في المسائل الفقهية كما في السياق السياسي أيضا. وبذلك فإن الدعوة إلى مبارزة الأسلاميين للعلمانيين في شعارات إستفزازية وسباب لايليق بمجتمع مدني متحضر هما دعوة إلى الفتنة. حتى ولو لم يكن الدعاة من طالبي الفتنة فإن التجييش الحاصل من خطبهم التهجمية التي يتصورون أنهم ينصرون بها الدين ويرفعون لواءه، هي تأجيج للمشاعر وخلق لحرب لا مبرر لها ولا تخدم الدين الحنيف في شيئ.

وما أدرانا أن هذه الموجة من الخطباء لا تنقل صراعات الفقه إلى إستقطاب طائفي لسنا في حاجة أليه أو خلق لصراع مذهبي موهوم نتلهّى به في مرحلة دقيقة من تاريخ الأمة حتى يقع الأستفراد بأعدء أمريكا وإسرئيل واحدا واحدا ومن أهمهم قوى المقاومة؟ هذا الأمر بدأت تتجلى ملامحه في ظل حرب باردة بدأت تتأسس ضد إيران. اما من جهة اصحاب الشأن في تونس فإن ترك الأمور تسير على علاتها لعل في ذلك ما يخفف العبئ على الشحن السياسي ضد النهضة أو يرضي قاعد شعبية عريضة تملأ صناديق الأقتراع لصالحها، فهو من قبيل اللعب بأوراق خاسرة. لا أعتقد أن المغزى من السكوت يعبر عن هذه الرؤية بقدر ما هو من دواعي حرية الفكلر.

لا ننسى أن الحركات العفوية لجماعات غير مسؤولة وغير ضابطة لعناصرها أو متعرفة على الدخلاء عنها هي فوضى أخرى لا تقل أذى عن فوضى الجنجويد. ثم أن ترك الحركة الطبيعية للأشياء تتدحرج في مسارها المتاح لها هو عبارة عن تشجيع غيرمباشر على فتنة في حد ذاتها. لعله من المنطقي أيضا الحديث عن نفس العيب التنظيمي الذي تعاني منه الحركات الأسلامية في مجملها والمتمثل في غياب التوصيف الكامل للحركة بما هي و بما ليست هي. أعني بذلك أن يتعرف المنتمون وعامة الناس إلى حدود ومجال الخلفية الفكرية والسياسية للحركة حتى لا يقع الخلط بين الأفهام واللبس بين الخلفيات. إن الرضا المبطن عن أسلوب الدعاة و محتوى تناولهم للشأن السياسي يفهم منه مستوى من التحليل والفهم ويخلط بين ما تطرحه مجمل التيارات الفكرية الأسلامية. فتشجيع قواعد وكوادر حزب ما لهذه الظاهرة لا يتناسق مع الطرح الحداثي للحزب. فطرح مسألة الديمقراطية للتكفير مثلا وفي خطب جماهيرية هو ضرب للمشروع الوطني الذي إلتقت عليه كل القوى السياسية الفاعلة وهدم للبناء الديمقراطي الحديث. فمن الضروري العمل على توضيح ماهية كل حركة بما لها من منطلقات فكرية و عقائدية و بما لا يشمله مجال عملها السياسي. إن السكوت عن الدرجات العالية من النشاز قد يجمع عددا أكبر من المنتمين لكنه في لحظات فارقة من المسيرة يؤدي إلى الأنشطار، برغم الولاء الكبير للمشروع.

في الجانب الأخر من الصورة يقبع ثلة من الحداثيين الذين لم يفيقوا بعد من صدمة نتائج الأنتخابات. أقنعهم تفكيرهم الذي توقف عند زمن الصدام مع "الخوانجية" سنوات الثمانينات بأن الحركة تقع ضمن تصنيفاتهم الأيديولوجية الصارمة كحركة رجعية متحالفة مع قوى الرأسميالة المحلية والعالمية. ، وبذلك لا يمكن لحركة كهذه أن تقود منهج الأصلاح و الخوف كل الخوف من أسلمة الدولة، الأمر الذي يعني بالنسبة للبعض قضاءا على حرياتهم الشخصية وإرتدادا إلى في مستوى الوعي الشعبي العام. برغم كون العنف الثوري كان مبررا من الجميع فإنه والحق يقال كان عنف الجماعات الأسلامية أشد وقعا و ترك في أنفس من عاين تلك الفترة إنطباعا بأن طالبان مرت من هناك. إلا أنه أن يبقى الأنسان حبيس الماضي بأخطاء إرتكبها الجميع أمر غير مبرر. آن الأوان أن ينظر إلى تلك الفترة بشيئ من التصالح والموضوعية.

يمكن أن تمتد حركة الحداثيين لتشمل أطيافا من اليسار ذي الأرتباط بنظام المخلوع وبقايا من المناضلين النقابيين الذين هالهم أن يفقد تؤول الثورة إلى غيرهم وألا يروا ثمار ما قدمته عناصرهم من نضالات نقابية مواكبة لتحركات آخر شهرين في عمر الحاكم السابق. لا ينكر إلا جاحد أن النقابات قامت بمساندة تحركات سيدي بوزيد والقصرين و تالة ثم قبل ذلك، ولو بشكل محدود، تحركات الحوض المنجمي، التي قادها ميدانيا ثلة من مناضلين غير إسلاميين. أمام هذا الأقصاء القانوني و التجييش المتواصل ضدها، ترى هذه القوى مستقبلها في خطر و حركتها في تقلص. بادر البعض بمد قارب النجاة عبر مشاريع مختلفة رأت الفرصة سانحة لتظهر فشل الحكام الجدد وتبعث الروح في المشروع البورقيبي القديم. رغم ما يمكن أن يعنيه إلتقاء كل هذه القوى من منافسة للنهضة و الأحزاب المتحالفة معها، حتى ولو تجلى ذلك في إئتلافهم في تيار أو حزب واحد، فإنها لا تمتلك العمق الشعبي اللازم لتصبح قوة سياسية لها إعتبارها في ظل اللعبة الديمقراطية النزيهة. لكن درجة إندفاع عناصر عدة ضمن هذا التيار الواسع وعدم توفر أسس الحوار الوطني الأيجابي وعدم تخلص النخب من رواسب عقلية الأقصاء والأستئثاريجعل درجة الكره كبيرة والتداعي إلى الثأر ممكنا. مرة أخرى نحن إزاء حركة طبيعية تدفعتها عوامل تتجاوز السياسة إلى المشاعر الأنسانية التي قد تجعل مصلحة البلد في درجة ثانية بعد مصلحة الحزب والفكرة و الفرد. لا يقبع الأمر داخل مربع المؤامرة بقدر ما هو دليل على وجود قوى إجتماعية و سياسية قابلة لأن تتحول حركتها إلى طرف مهم في ميزان الأحداث إذا ما وقع الأنزلاق، لاقدر الله.

يبقى المكون الفكري الثالث والمركزي من حيث الطرح، الغائب عن أضواء الأحداث ومجرياتها غير مساهم في التجاذب القائم لا نئيا بنفسه لكن صوته لا يكاد يسمع من بين الصخب. يقبع التيار القومي العربي في ركن منزو لكنه غير شديد. عصفت الاحداث الأخيرة التي إبتدات بسقوط القذافي وعرجت على ما يقع من مجازر في سوريا بمقولات قومية افسدتها سياسة الأنظمة ولم تواكب الطروحات السياسية المتناحرة. لقد كان الفكر القومي المتأصل أداة مقاومة ومنهج ممانعة في كل المراحل التاريخية للأمة فكان عنوان قومية المعركة والرؤية الشاملة لمجابهة مشاريع الأستعمار والصهيونية ومشروع الوحدة العربية كطوق نجاة للكيانات الجغرافية المتشرذمة. لكن بتكرارها و جمودها تكلست كل هذه المقولات وأصبحت عاجزة عن إستقطاب الرأي العام أو صياغة مشروع لحزب يقنع قاعدته، فيما بالك بإقناع قطاعات شعبية أوسع من غير المثقفين والمنتمين. صحيح أن عامة القوى الشعبية تساير خطابا يلامس مشاعرها وإحتياجاتها ومدى فهمها المحدود أحيانا بدل الخوض في أسس فكرية شاقة المنال مثل "نظرية الثورة العربية" للمرحوم عصمت سيف الدولة، لكن يبدو أن آليات تحليل وخطاب التيار القومي لم تعد تهيمن على الموقف الحالي، رغم محورية قومية المعركة، إستلهم التيار الاسلامي هذه الفكرة ووظفها ويسوقها ضمن الطرح الأسلامي الجديد الذي "إفتك" من القوميين عروبيتهم، بعد الألتقاء ضمن المؤتمر القومي الأسلامي في بيروت قبل نهاية القرن الماضي، وأصبح مدافعا عن الهوية بشكل متوازن لا يكرر مقولات الأسلمة قبل العروبة التي كان يرددها زمن الثمانينات. كان من المفروض أن نرى تقاربا أفضل بينهما ودورا أهم لمسألة القومية في فكر الأسلاميين. كما أن الحركة القومية في كثير من جوانبها بقيت حركة ثقافية تنشر الوعي بقضايا الأمة و تعمل على تثقيف عناصرها بدل العمل في السياسة بشكل كامل. قضت الأنظمة الرافعة للألوية القومية تقريبا على البعد الشعبي للتنظيمات القومية، وهو ماكان متوقعا بعد حرب الخليج الثانية بصفة أوضح، فلم تقف ليبيا القذافي موقف المساند للعراق في حربه وتخلت حتى عن دعمها لكل الحركات الثورية. يضاف إلى كل هذا غياب الزعامة التي يجمع عليها عامة القوميين لتجعل منهم كيانا موحدا يستعيد صوته في خضم الجدال القائم على الأقل. وولئن أصبح الطرح الأسلامي هو سمة العصر فأن الحركة القومية لابد ان تعيد صياغة أدبياتها وتحيين مصطلحاتها إن أرادت البقاء. لعل الوضعية الحالية الهزيلة للقوميين هو ما يجعلهم خارج سياق الحركات التي ما أن تاخذ وضعها الطبيعي وتتاح لها الحركة حتى تصبح جزءا من خلط الأوراق والتصادم الذي تتسارع بإتجاهه أكثر القوى السياسية والأجتماعية.

يبقى جانب مهم من الخارطة لا يخضع لأنتماءات أو حسابات سياسية بقدر ما يرجح الكفة في أي إتجاه شاء ويحرك دفة الأحداث، إنها مسرح عمل قوى الجنجويد في مجتمعاتنا والجانب المتأثر بمجمل أفعالهم. تبقى الساحة الشعبية بكل ما تتركه التجاذبات السياسية والتوظيفات الحزبية، بل وحتى الأستعطاف الحزبي قبل الأنتخابات من قبيل إملئ المعدة يستحي الفم، بعيدة عن السيطرة والتقدير. إنتفضت الساحة الشعبية بدون تاطير حزبي معين وإقتلعت جذور النظام السابق في وقت كان فيه البعض يتحدث عن يأسه من الشعب بحكم فساد الماكينة الحاكمة الصانعة له.

إلا أنه بسبب غياب الحس الوطني المسؤول وإنفلات الحركة من عقالها بعد أن كبلتها أيد القهر البوليسي لعهود، اصبح التحرك الشعبي في أحيان كثيرة غير مامون العواقب لما قد يفضي إليه من شحنات التفريغ والثأر من مؤسسات قهرته بإسم دولة القانون وهيبة الدولة. حتى أضاعت منه كل حس وطني و أصبح الربح الآني للفرد أهم من حماية الدولة ومؤسساتها. بالنسبة لقطاع واسع من الشعب الدولة تعني المغنم الذي إستاثرت به أقلية وحرم هو من نصيبه، وكل فرصة لنيل نصيبه مبررة مهما كانت الوسيلة. قطعا، هذه ليست عقلية المواطنة ولا هي بالعقسدة التي تبني وطنا. مع إزدياد الأحوال المعيشية سوءا وتدخل أباطرة الاستغلال والأحتكار ليثروا على حساب لقمة الشعب، إزداد التفكير بما هو أنٍ وذاتي وظهرت الشكوى بمرارة بعد سنين من الكتمان والمعاناة الصامتة. ظهرت صورمن الفقر الشديد عمل أعلام المخلوع على عدم الألتفات إليها. قتامة هذه الصور لا يكمن في غرابتها بقدر ما يظهر عجز المجتمع المدني، قبل الدولة، على معالجتها. هذه الصور ليست غريبة على مجتمعات الأرياف التي هيمن عليها الفقر وشظف العيش عهودا كانت فيه حبات القمح نادرة في مجتمعات الخماسة بصفة خاصة. لكن غياب آليات التدخل في تلك الفترة حالت دون القضاء على هذه الظاهرة. أما اليوم، فإن المجتمع بحاجة إلى تكوين جمعيات تتدخل ميدانيا اين تعجز أليات الدولة على الفعل مباشرة و بشكل عاجل وتسدّ منافذ العوز والمعاناة. لقد قامت بعض الجمعيات بدور فاعل في مساعدة الناس خلال موجة البرد التي إشتدت في شهر فيفري 2012 في مناطق الشمال الغربي. في نفس الوقت يمكن أن تتدخل أليات الجمعيات المدنية التطوعية لضمان وصول صوت الناس المعزولين بحكم الجغرافيا و قلة الأمكانيات إلى أجهزة الدولة، في هذا السياق أدعو إلى المساعدة عل بعث جمعية لمحاربة الأقصاء والتهميش كفكرة في أذهان الناس وكممارسة لايزال قطاع كبير من الموظفين والعقليات الأدارية تمارسها يوميا. إن محاربة الاٌقصاء والتهميش سيقلل من تاثير بقية القوى السياسية والأجتماعية في الأوساط الشعبية العريضة. في غياب تأطير مباشر و تناول جدي لمشاكل الناس تبقى التحركات الشعبية قابلة للتحول إلى جسم ينساق إلى الفوضى في ظل الواقع المعيشي الصعب والأستقطاب السياسي النشيط.

مرة أخرى يكبر التحدي بتعدد قوى ظاهرة الجنجويد، لكن البناء الثابت لابد أن يتعرض إلى العواصف ليثبت قدرته على الصمود.



[1] http://en.wikipedia.org/wiki/Janjaweed

[2] نفس المصدر السابق

Friday, February 17, 2012

الحلم الثوري: 1- - الاسلاميون وتحديات المرحلة تجاذب في خضم الضجيج والجدال :

1- الاسلاميون وتحديات المرحلة

تجاذب في خضم الضجيج والجدال

بعد أن برزت الخطابات الاسلامية بشكل مكثف في الدول التي حدثت فيها الثورات العربية، أصبح البديل الاسلامي واقعا تفاعلت معه المجتمعات المحررة من الأستعباد بإيجابية كبيرة تخللتها مواقف رافضة من قبل بعض القوى السياسية. ولئن كانت الأنتخابات التونسية والتحركات الميدانية الواسعة في كل من مصر وليبيا دليلا على شعبية الطرح الأسلامي، فأن المشروع بأكمله لايزال يتعرض إلى تحديات مختلفة منها ما هو متعلق بالمشروع ذاته وماهو مرتبط بالمخاوف التي تطرحها بجدية القوى السياسية والدولية في الداخل والخارج. مع أن التحديات الداخلية المرتبطة بالمنظومة الفكرية والايديولوجية للطرح الأسلامي تعد الأخطر على المدى القصير و أكثر منها على المدى البعيد، يبقى تحدي مخاوف المناوئين للمشروع والمعادين له قائما و بشكل جدي من زاوية الإقصاء.

قامت الثورات في بعض الدول العربية ولمّا تبلغ المجتمعات درجة الوعي السياسي الضروري للتعامل مع المرحلة وبناء المجتمع المدني المنشود. هذا الامر بديهي من حيث الاسباب والوقائع. فلم تتح لهذه الشعوب فرصة ممارسة الاعتناء بالشأن العام والخوض في المواضيع السياسية بكل حرية بشكل يمكن من افراز وعي سياسي متطور وفهم للمسألة السياسية في ترابط كل عناصرها. السياسة، من حيث كونها نظرة في الشان العام في ارتباطه بكل مكونات العوامل الداخلية وبموقع البلد والمؤثرات الخارجية، هي فهم شامل لا ينبغي أن يهمل مكونا على حساب الآخر. بقطع النظر عن الخلفية الفكرية للأشخاص فإن صياغة فكرة متكاملة وإنجاز رؤية واضحة حتى على المستوى الفردي أمر يندر في المجتمعات المتحررة حديثا من التسلط وإنقلاب الموازين. هذا الأمر ينطبق على المثقفين بشكل واسه، ناهيك عن الاجيال التي لا تقرأ وتلك التي تمارس الإلتجاء إلى الملهيات لسد فراغ الأنشغال بالمعرفة والفهم. من ذلك ان الاهتمام بالكرة مثلا كان مؤشرا على عزوف الناس عن تناول الشأن السياسي وتعويضا عنه حين كان إستعمال المفردات ذات المدلول السياسي إحدى المؤشرات التي تستعملها أجهزة التجسس في رصد الاشخاص وتسجيل إنتماءاتهم العقائدية للتأكد من نواياهم. في ظل هذا الوضع الذي يضع الخوض في السياسة خطرا كبيرا وجريمة لا يغفرها الفرد لنفسه إذا تدخلت الأجهزة القمعية للدولة، كانت حتى العقائد الدينية لدى الأفراد في دولة مثل تونس محل مضايقة وتتبع لأن التدين كان مؤشرا للبوليس على الأنتماء الى الجماعات الإسلامية. إلا أن كتم الأفواه و إشغال الناس بكل الملهيات لم يغيب عن لاوعيهم أهمية الشأن السياسي المتداخل أصلا مع كل نواحي حياتهم ومشاغلهم اليومية.

في ظل هذا الوضع المناوئ لكل مسعى نحو فهم الشأن العام والخوض فيه، نشأت أفهام منقوصة لم توضع على محك النقاش ولم تثرى بأدبيات التيارات الفكرية والسياسية. فقد كانت أغلب مصادر الأفكار التي من خلالها يتم تحليل الواقع السياسي مستنبطة من خطب ودروس دينية على الأنترنات مصدرها عادة واقع إجتماعي وسياسي آخر أكثر إنغلاقا ومن أفراد عامة من غير المثقفين ذوي الكتابات والرؤى المنطقية. كما أن السبب في تنامي إهتمام الشباب خاصة بالخطاب الديني الذي يرد عبر دروس محتواها تعبوي أكثر منه ديني يعود الى الإحساس بالخيبة بعد فشل المشروع التغريبي المعادي للإسلام الذي تبنته الأنظمة، صراحة أو مداراة. بعد أن تبين لعامة الناس فشل مشروع الدول المرتبطة بالغرب والحريصة على تحقيق مصالحه قبل تحقيق المصالح الوطنية، بدأ التفكير في رؤية مبسطة متوفرة ومتاحة للجميع فيها من اليقينية والوثوقية ما لا يتوفر في غيرها. وفر هذا المناخ الجهوزية التامة لتقبل الفكر المنبثق من رؤى إسلامية. فالإسلام مكون حضاري راسخ في وجدان المجتمعات المسلمة رغم غياب الإلتزام الديني لدى كثير من الافراد. قد لا يعبأ البعض منهم بالتطاول على الأخلاق العامة وعلى الدين والمقدس ذاته (سبب الجلالة والعياذ بالله)، لكن في لحظات عدم اليقين وتداخل الأمور والخوف من المجهول (مستقبل، إلخ) يكون اللجوء إلى الدين أكثر الأمور وثوقية وأجدى أنواع اليقين وأقربه الى الفرد. لذلك في اذهان هؤلاء يقارن مشروع الحكومات عادة بالمشروع المثالي الذي يطلب الإسلام تحقيقه. ففي حين يسود الجور والإحتقار مجتمع الحكم الفاسد، يضع الأسلام كل ما يتطلبه الحكم الرشيد من قواعد أخلاقية وسلوكية عامة ينبغي أن ينضبط بها الحاكم قبل المحكوم. ظل هذا المشروع المثالي أنموذجا حيا في وجدان الناس قبل أن تصوغه الحركات الإسلامية الحداثية في شكل مشاريع سياسية. وبقي ايضا راسخا في لاوعي الناس حلم العودة إلى زمن الأمجاد من عصر النبوة وما تلاه من خلافات راشدة. وعندما سقطت مشاريع الأنظمة قبل أن تسقط هي فعليا راينا المساجد تمتلئ بالشباب يتحدون المشروع التغريبي وصانعيه بأنماط تدين غير موروثة: اللباس، وضعيات أداء الصلاة، وغيره من مظاهر سلوك تحمل مشروعا لا يرتاح اليه الحاكمون. ولئن كان للناس الحق في تحديد الذوق المناسب لهم منطقا، فأن الظاهرة كانت لا تخلو من استحضار مكثف لمكونات بديل اسلامي غير متوافق مع تطور تفكير الحركة الأسلامية ذاتها. فقد تجاوز تفكير حركة الأتجاه الأسلامي (النهضة رسميا و بعد إنقلاب 7 نوفمبر) التاثر بالبديل الأجنبي ومظاهر التدين في المجتمعات الشرقية إلى صياغة مشروع كان أكثر حداثية وأقرب إلى المدنية. إلا أن هذا المشروع كان قد أستبعد من طرف السلطة وأطرافها من اليسار المتشدد المتحالف معها.

أما عند قيام الثورة فقد برز للعيان هذا المشروع كبديل حضاري جاهز أكثر إقناعا ووضوحا من المشاريع الاسلامية الأخرى سواءا القديم منها (حزب التحرير) أو المستحدث على الساحة السياسية في تونس مثلا (السلفية). مع حالة التعاطف التي حظي بها المشرد بهم من أبناء الحركة الإسلامية (النهضة بصفة خاصة) والطمأنينة التي عمت الناس وهم يرون الجماعة تتفهم مخاوفهم وتكذب الاشاعات الواهية من قبيل ترك النساء في البيوت والسماح بتعدد الزوجات. فقد كانت التطمينات التي أرسلتها الحركة والتودد الظاهر يبدد أيضا الصورة النمطية المغلوطة في أغلبها التي رسمها الإعلام الرسمي للنظام السابق. يضاف إلى كل هذا السجل النقي (سلوكا أخلاقيا) عامة للعناصر البارزة والقيادية في الحركة على ما بدى لعامة الناس. فقد بدأ البديل الأسلامي المتمثل في النهضة مقبولا وذا قاعد شعبية واسعة ومحل ترحيب لينال بذلك ثقة شرائح عديدة من أبناء الطبقات المتوسطة وأصحاب المشاريع الباحثين عن مناخ إستثماري مطمئن. في حين بقيت الطبقات الشعبية الواسعة تنتظر ثمرات الثورة ورد الأعتبار لها في شكل وعود ومكرمات وعطايا وهبات تعبر عن حسن النوايا وتجعلهم ينتظرون المزيد. فكما ابتزه النظام المخلوع بتصوير فرحته في أجهزته الإعلامية مقابل عطاء الدولة، قد ينتظر منهم سياسيو اليوم الولاء والتأييد مقابل مساعدات غذائية. في المحصلة شعر عامة الناس بالطمأنينة وهم يرون النهضة تزداد شعبية و أنصارا. كان هذا كما في تحليللات الكرة مؤشرا على أنها الفريق الرابح وذو الحظوظ الأكبر. وبما أن الأهتمام المفرط بلعبة كرة القدم كان قد اورث شريحة كبيرة من الناس آليات تفكير معينة بها يحلل أداء الفرق وتطرح أسباب مناصرة فريق دون آخر وتسرد تاريخيته وأفاقه المستقبلية في عالم الكرة، فقد كان المشهد السياسي مشابها بلاعبين أجدر بالمناصرة والدعم وآخرين فاشلين لا أمل لهم لا في الكأس ولا في البطولة. لم يكن هذ الطرح مهيمنا وحيدا على خلفيات تفكير الناس لكنه كان أداة من أدوات الفهم في غياب وعي كامل بالطرح السياسي على الميدان. المشاهد والمعاين للأسئلة الموجهة إلى قيادات النهضة مثلا يرى أن أكثرها كان يتمحور حول مسائل بسيطة ومواضيع جانبية لم يطرحها المناهضون الجديون للنهضة إلا تشويها ساذجا. في حين بقي النقد الجدي لمكونات المشروع النهضوي غير متاح إلا لقلة قليلة من المثقفين المنتمين في الغالب الى خيارات سياسية أخرى. لم يتسن طرح خلفيات المشروع في البداية لبراقماتية المرحلة وشعور الناس بضرورة تأجيل النظري والخوض في المستعجل والعملي بشكل أكبر. المهم لدى الشرائح الواسعة من الناس هو الأطمئنان إلى طرف يحقق كل ما نريد وما هو جيد لنا. بالنسبة إلى النهضة كان إقناع الناس في هذه المرحلة أمرا في منتهى البساطة وفي منتهى الأهمية لان المبتغى كان حشد الناس وزيادة العدد وشحن العواطف ورص الصفوف إستعدادا لنزالات عديدة متمثلة في الأستحقاقات الوطنية وغيرها. وبما أن الخطاب التعبوي كان لعبتها، فإن الحشد كان كل مرة يكبر ويزيد الخصوم حذرا ثم سخطا ونقمة. وعلى أعتبار أن المشروع في جزء منه إحياء للدين، تاريخا قبل أن يكون فقها، فإن التأويلات الفردية للمسألة على ممستوى عامة الناس هي مجمل مشاريع حالمة تتراوح بين التشدد واللين الكثير، تبقى الرؤية ضبابية حتى لبعض المثقفين. فأعطى الشعب في إنتخابات المجلس التأسيسي ثقته في من سيبنون الدولة الاسلامية المثالية كما تقدمها الخلفية المستبطنة بكل إطلاقيات ووثوقيات أحكامها كعدل تام وخيرات وفيرة وحاكمية لله وحده. هذا ليس نسبا لمشروع الدولة الاسلامية الى مجال الخرافة بقدر ما هو توصيف لمشروع ضبابي بعينه فيه من حسن النوايا والرؤى الوردية ما لا يبرره أو يقدمه بعض الطروحات الأسلامية. من الغريب أن المشروع الحداثي كان متميزا في تونس على مدى المراحل التاريخية. فثوربة الطاهر الحداد وعبد العزيز الثعالبي في القرن الماضي عبر عنها توازن الطرح النظري الذي قدمته عنه حركة النهضة في بعده المدني.

في ظل هذا الطرح الاسلامي المعتدل في ادبياته والمتوازن في أدائه، يظهر في جانب يزداد اهمية الطرف الديني الأكثر تشددا. يتخذ هذا الطرف عنوان تبني الخلافة لدى حزب التحرير والرجوع الى السلف الصالح مرجعا ومشروعا سياسيا لدى السلفيين. ويعود هذا التيار في أصول تفكيره إلى السلفية الجهادية وغير الجهادية المتناسقة مع تفكير ابن تيمية وما أعلد صياغته إبن عبد الوهاب. يمكن تصنيف هذا التيار الفكري على أنه إمتداد لرأي إبن حنبل في الأخذ بظواهر النصوص. ثم أخذ به إبن تيمية في محاربة البدع. ويقاس عليه اليوم إنكار الديمقراطية لأنها لا تأخذ بمقومات الشورى الإسلامية ورفض كل ما هو مستحدث في أمور الدين. كما أن السلفية تتبنى مبدأ الحاكمية لله عز وجل وهو ما يقتضي العمل بأحكام النص القرآني في تطبيق الحدود الشرعية. ويعتبر السلفية التخلف عن هذا المطلب بسبب مدنية الدولة أمرا غير مبرر. ما يميز هذه الدعوة هو عدم توفر أدبيات فكرية متطورة و يعتمد المريدون على الأفكار العامة المبسطة واليقينية التي تعود الى فهم تقليدي للدين من قبيل الأخذ بالمعنى السطحي المباشر للآيات القرآنية من قبيل عدم الحكم بما أنزل الله. كما يقع تبليغ هذه الأفكار عن طريق بعض القنوات الدينية الخليجية ومجموعة من الدعاة الذين يستعملون أساليب من قبيل التهييج والتجييش ومخاطبة المشاعر الدينية لأجيال و أطراف إجتماعية لم تنل الحظ المطلوب من مواكبة النقاشات الفكرية وفهم مشاريع النهضة المطروحة بشكل علمي وواقعي. إستغلت هذه الحركة الوضع العام في البلاد ومرحلة ما بعد الثورة وغياب مناخ النقاش الفكري السليم. وككل فكر دغمائي غير متطور في سياق الحوارالفكري والتفاعل الإجتماعي الطبيعي، تبقى مجمل الطروحات التي يتبناها التيار السلفي غير قابل للنقاش الأيجابي وتناوله يعتبر أحيانا تطاولا على الديني والمقدس. ثم ان التقسيم الاجتماعي إلى مسلم وعدو كافر يضرب المشروع الحضاري المدني الذي يجمع كل مكونات المجنمع. وما حادثة سجنان، بعيدا عن التضخيم والتوظيف الإعلامي، إلا دليل على تصور الجماعة السلفية لطريقة العمل. ثم أن حادثة النقاب في كلية منوبة يمثل صورة للتجييش الطائفي الايديولوجي وتغييب لمؤسسات الدولة بفرض طرح الجماعة. وفي غياب النقاش والتفاعل الحضاري، تنطلق موجات ردود الافعال المتشنجة وغير المسؤولة الداعمة لفرض الرأي بالقوة نصرة للدين، كما يرونه، إعمالا للنص كما يفهمونه. الجانبان المزعجان في الصورة هو سهولة الاستقطاب والتأطير و من ثم التوظيف للطاقات الشبابية بشكل مغلوط أحيانا من جهة، وإمكانية إلتقاء حالة الأنفلات التي يخلقها عدم إنضباط عناصر هذه المجموعة مع أي شكل من أشكال الحركات الأرتدادية للقوى المعادية للثورة، من جهة أخرى. في ظل عدم توفر ضبط قيادات هذه الجماعة لعناصرها تبقى البوادر الفردية وردود الافعال الطائشة ممكنة الحدوث وغير معلومة العواقب. بذلك يصبح التجاذب بين مختلف جوانب المشروع ذي المرجعية الأسلامية فيه كثير من الضجيج، لكون الحديث من جانب واحد ظاهرة لا توفر أرضية للنقاش والتفاعل. ثم أن التحدي الحقيقي أمام الطرح الإسلامي بمكونيه المدني المتطور والمحافظ هو فهم الوضع الدولي والأقليمي ومتطبات الداخل للبعد عن صياغة مشروع فشل قد يتجاوز مخططات المثبطين والمتآمرين على نجاح الثورة.