مجاوزة اللزوم

Sunday, January 5, 2014

الإعاقة التفاعلية وإعادة صنع االفشل

الإعاقة التفاعلية وإعادة صنع االفشل 


لقد اتسمت السنوات الاخيرة ببروز معاني حضارية جديدة طبعت مجمل الابحاث والتوجهات والابداعات في العلوم الانسانية
 والاجتماعية بصفة عامة، وعلوم التربية بصفة اخص. تتمحور هذه المعاني حول التواصل والتفاعل الذين يبنيان المعاني والمشاريع والمعارف أيضا. 

فالعلم هو بناء تحاوري تواصلي تتبلور فيه الافكار والنظريات ومجمل الاكتشافات في اطار تفاعلي فيما بين الباحثين والمحاضرين والطلاب. فلا يمكن لباحث بمعزل عما سبقه وما يعاصره من اعمال ان ينجز تطورا علميا.  ولعل تطور طرق التواصل هي التي سرعت الابحاث والاكتشافات في الحقبة الاخيرة.  

كما أن التدريس نفسه لا يصبح تعليما الا اذا كان في سياق تواصلي حواري ينطق فيه المتعلم بقواعد الدرس ويصل الى مجمل الاستخلاصات والمفاهيم التي يهدف اليها المعلم. انها جوهر الطريقة التوليدية التي تجعل المتعلم جادا في الوصول الى المعلومة بمساعدة المعلم. 

وفي السياق الاجتماعي، يصبح التقاء الافراد على راي واحد اكثر صعوية في المجتمعات الفردانية النزعة، بخلاف المجتمعات القبلية التقليدية التي يكون فيها الوعي مستنسخا ومشتركا بين الافراد كتعبير عن التضامن والوحدة.  وبذلك يصبح الحوار والتفاعل بين الافراد امرا حتميا للتاسيس.  اذ ان وجود قوى اجتماعية مختلفة يدفع كل منها في اتجاه معاكس للاخر يجعل طرح الديمقراطية والتعايش السلمي امرا مسحيلا.

يقتضي التفاعل الادراك بان غلبة مكون اجتماعي او سياسي على اخر باية طريقة كانت، حتى من خلالل منطق الاقلية والاغلبية، هو استئصال خطير لاسيما ونحن نعيش فترة تاسيس لم تستقر فيها مجتمعاتنا على حال تنتج فيها افكارا نمطية عامة.  ان الغلبة أو تغليب قيم اجتماعية على اخرى هو اعادة لنفس الحمق الذي مارسناه لقرن ونصف.  باسم الفئة الغالبة استعملت كل الاسلحة وخاصة ما يتنافر ببعضه مع بعض (النص والفتنة) لتغليب شق على اخر ونفي الاخر تماما. كما انسحب الامر على كل مناحي الحياة فكونا بذلك ثقافة الاقصاء والتنكيل والصد وتفننا في اخراجها بكل اصناف التدين. فاصبح الاقصاء والسحل والسلخ والسلب والنهب والاعتداء على الاعراض يتم باسم الدين وعبر بوابة الجهاد، الفعل المقدس اصلا.   

لم نكون فضاءا واحدا في تاريخنا من اجل ثقافة القبول والبناء. الغينا العقل والحق والفضيلة ولم نحاور حتى ككافرين بها بل حاربناها بلغة السيف والقوة وحدها.  لم نكتب ونجادل ونسفسط اصحاب الراي الاخر حتى.  اكتفينا بالاقصاء مسنودين بما عشنا مصرين عليه من فهم للنص القرآني ومستعينين بالسيف اولا واخيرا.  لم ننتبه اننا باقصائنا وتكفيرنا للفئة الباغية نبغي في الارض ونحفر قبورنا في حركة سيزيفية لم ننتهي منها الى الان.

ان كفرنا بالتفاعل والبناء والاحتضان والمحبة والقبول والجدال والاقناع والاقتناع و"تهوية" الادمغة وطرد ركن الشيطان فيها هو انكار لمعلوم من الدين بالضرورة. كلنا يعرف هذه القاعدة الفقهية كاحدى تعريفات الكفر لكننا لا نعي أن قصر الحقيقة على ما في عقل الواحد منا او ما في عقل شيخه أو رئيسه أو ربه الدنيوي هي عين الكفر. فالحق هو الله عز وجل والحقيقة ليست متمثلة في بعد او اثنين او اكثر فقط. انها صوة بابعاد مختلفة ومتناهية جدا لا يصلها الا العقل المحض. هذا اذا تحدثنا كمسلمين، اما والحال اننا مطالبون شرعا وعقلا ان نتحدث بخطاب اممي اشمل يتماشي مع ما نحن معنيون به من نشر لرسالة خير وسلام، فانه ينبغي علينا القبول بان مجمل الاراء المختلفة، بما فيها دعاوينا الفردية والجماعية، هي اشكال من الحقيقة ونسب مئوية منها.

ان النظر بعين السياسة اليوم يحيلنا الى صور تكفير مشترك ومتبادل بدون القدرة على التفاعل، لا بل ان محاولة الحاور نفسها هي انتاج للاقصاء في المحصلة.  في الحقيقة، تبدو المعيقات متمثلة في مركبات الغرور والخوف وعدم القدرة على الفهم، إنها الاعاقة الادراكية. رغم ان الاخير هو مصدر الاولين، يبقى الغرور بالدين مسالة واضحة في ركون الاغلبية الى الثبوتية في المواقف والثبات المستمر على الخطأ الكارثي.   

عجبا لامة تقرأ "تعالو الى كلمة سواء بيننا وبينكم" (قران كريم) يخاطب فيها الله تعالى اصحاب دين اخر، لا تعرف المحاورة والتفاعل.  يجعلنا هذا الامر على يقين من اننا لم نلامس حقيقة الدين الا قليلا ولم نفهم معانيه حتى نتكلم باسمه وندعو اليه ام نتبناه كمشروع حضاري.

إن حاجة المجتمعات الغربية الى المحاورة كاسلوب تربوي وكمنهج حياتي وعلمي و بحثي و وجداني نابعة من وجود تركيبة اجتماعية فردانية فيه نتجت عنها سلوكيات فردية انعزالية واخرى معادية للمجتمع unsocial and antisocial  وهو الامر الذي لم نصله بعد.  لكننا مقابل ذلك نعاني من عداء الاخر والغائه حتى في ذواتنا وهو ما يحتم علينا اما ترسيخ التفاعل أو اقصاء الاستئصاليين انفسهم لان محاورة بائعي عقولهم هي من اشق المهمات واكثرها عبثية.

No comments:

Post a Comment