مجاوزة اللزوم

Saturday, January 9, 2016

بين المناكفة والتمكين والمقاومة

بين المناكفة والتمكين والمقاومة
تعمل نماذج العمل السياسي وفق قواعد مطلبات الطرح وسقف الاهداف.  لذلك فاسلوب النضال يعبر عن حقيقة البديل السياسي وعن تأصله وجدية طرحه.  وعكس ما كان يعتمد في تقييم طروحات واساليب العمل السياسي، نضالا كان او عملا محدودا، من راديكالي مقابل اعتدال، او سياسة مقابل عنف، أو حلول مجتزأء مقابل حلول ثورية جذرية، فإن مجمل التجارب السياسية افرزت نماذج أخرى متماهية مع نوعية الطرح السياسي ومعبرة عن صدقيته ومستوى تطلعاته.  من الجدير بنا اليوم اعتماد هذه النماذج لمقاربة المشاريع والبرامج السياسية للحركات والاحزاب ومعرفة مواطن الخلل ومآل هذه المشاريع التي قد تبدو لنا اكثر قدرة شعبية وقدرة على تغطية التطلعات الكبيرة.
في مجمل التجارب السياسية للمعارضات الوطنية والنضالات ضد المحتل والاجنبي والحركات الشعبية عموما، هنالك ثلاث خيارات اعتمدتها الحركات سواءا عن وعي او تمثلا غير واقع لحجمها وتطلعاتها ونوعية مشاريعها.  يمكن حصر هذه الاساليب السياسية و"النضالية" في منهج المناكفة واسلوب التمكين وبديل المقاومة. 
مثلت المناكفة اسلوب معارضة شعبية حزبية ونقابية احيانا كشكل من العناد في وجه الحاكم لاحداث ضجيج متواصل، دون الدخول في صدامات ثورية راديكالية، من اجل تحسين اوضاع معيشية او ارغام صاحب السلطة على الرضوخ لمطالب ملحة وتطلعات شعبية محصورة.  من المهم ربط هذا المنهج بمجمل العلاقات التي قامت بين الحاكم والرعية الى ما بعد نهايات الفترة الاولى من الاستعمار الفرنسي لتونس عندما كانت مجمل ردود الافعال على الجباية والظلم تنحصر في الانتفاضات التي تعبر عن وجدان رافض بدون خطة عمل او تطلع لتغيير نظام الحكم، أي ان هذه الافعال في مجملها محصورة في الزمان والفاعلية وغير ممتلكة لمشروع بديل او لجرأة على التغيير الفعلي والكامل، أو حتى لتصور لما ستكون عليه الامور اذا ما انزاح الظلم بعوامل خارجية.  وهذا عامل مهم في فهم الانكسارات التي حدثت لكل الحركات المناكفة والتحركات الوجدانية العفوية.  لقد اعادت شعوب منطقتنا انتاج نفس الفشل كل مرة لانها لم تتحسس طريق المقاومة والفعل الحقيقي. هذه النظرة كانت تغلب حتى على التصورات والبدائل الثورية بعد كل انكسار، فيتحول المشروع الكبير الى مشاكسات مع انظمة الحكم تنتهي بتدجين وتركيع المشاكسين، ولعل الامر نفسه ينطبق على الردود العفوية التي وسمت سياسات انظمة كثيرة استدرجت الى الهرسلة والحرب والتدمير بعل غياب بديل المقاومة كخيار استراتيجي.
في نفس الوقت قدمت مرجعات دينية وغير دينية اسلوب التمكين كوسيلة للوصول الى مركز القرار بسلام وتفعيل التغيير من داخل المنظومة.  غير ان الملفت هو ان التغيير في الاخير يحدث لمنظومة طالبه اكثر مما يؤدي الى تغيير الواقع بديلا افضل وحلما شعبيا اسمى.  لعل المرجعيات الفقهية المتسترة بمشروعية التقية قد وفرت مشروعية لقادتها ان يستعملوا التلين والتلون كوسائل للمهادنة والتسرب الى السلطة لتغيير الواقع والتمكن من تنفيذ مشاريعهم من خلال ذلك، وبعيدا عن المشروعية، فإن المحصلة غالبا ما تكون الاستدراج الى المنظومة والانظباط لها اكثر مما تمثل خيارا لمحاربة الفساد وتحقيق العدل والرخاء.  ثم أن التمكين عبر الانخراط في منظومات المال العالمية هو افراغ للمشروع البديل من كل عمق شعبي وتمييع للقضية ولحاملي مشعلها، فعندما تحولت همة بعض حركات النضال الوطني الى الحصول على التبرعات والهبات، شل الشعور بالرخاء والانخراط في الاعمال النضال واصبح المال بديلا عن الوطن وغاب صوت البندقية ليصبح شح التبرعات مؤديا للسقوط في اسلو وما تلاها.  وهو ما يقع كل عقد تقريبا لحركات كثيرة بحثت عن التمكين فتحولت الى جزء من المكينة العامة لمؤازرة الكشروع القائم عبر توهمها احداث تغيير بطيئ مع الوقت. 
من جانب مقابل نرى ان الشعوب التي بنت روحا ثورية متوارثة وحققت امجادا تاريخية وانتصارات غير قابلة للمساومة ضد اعدائها، كانت قد بنت ذلك على تأسيس ثقافة مقاومة وروح مقاومة وعقيدة مقاومة.  لعل الرؤية العامية لمسألة المقاومة تستحضر العنف والحرب والراديكالية كاساليب وصور حصرية معبرة عن البديل.  أي أن المقاومة هي فعل عنيف وعناد قوي واصرار سيزيفي من اجل بلوغ هدف سياسي معين.  إلا ان المقاومة هي رؤية غير مجتزأة للاشياء تنظر الى خارطة فيها معالم واضحة وحدود جلية لمن هو العدو وعقيدة راسخة لتاريخية القضية وايمانا يقينيا بعدالة المطلب.  كما انها لا تؤمن بالوهم المتمثل في اعتماد التقية للوصول الى التمكين.  وهي ايضا رد على متطلبات الديناميكية والشجاعة المطلوبتان لفرض الخيارات على الميدان وتحقيق الامتدا الشعبي الضروري لكل قضية.
لعل المعنى الاهم ف تناول هذه الخيارات ومناقشتها ولو بشك موجز هو محاولة لفهم جزئ هام من تاريخنا تمثل في الحركات الاجتماعية التي لا تؤول الا الى فشل ولا تنتهي الا بمأساة وانكسار جديد كل مرة ينفلت فيها العقال لحظة غضب ونقمة من اوضاع الظلم والحيف والاستبداد والتفقير.  هذا ما يفسر توق انفسنا الى الحرية والعدل والكرامة بدون القدرة على تشكيل بديل يجعل المقاومة قضية وعقيدة.
 


1 comment:

  1. تحليلك سيدي على قدر لا بأس به من المنطق و لعل البديل يكمن في فهم ما تطويه السطور

    ReplyDelete