مجاوزة اللزوم

Thursday, February 23, 2012

بدعة الجنجويد

3- بدعة الجنجويد[1]

الكل يتذكر مصطلح الجنجويد في الصراع غرب السودان، لكن الجميع تقريبا خاصة من غير المتابعين لمسألة دارفور يتصور أن الجنجويد هم قبيلة أو مجموعة عرقية في المجتمع السوداني، بل أن الأمم المتحدة نفسا عرفتهم على أنهم عرقية منتشرة في مناطق أفريقية أخرى[2]، والحال أن الكلمة تعني كل من ركب ذا حافر أو اذا خف وغزا ليلا أو نهارا طلبا لمغنم و سلب. بقطع النظر عن الخلفية القبلية والاجتماعية لهذه الفئة فأن المدهش هو حشرها في عنوان واحد وكانها من أصل قبلي واحد أو على الاقل من قبيل واحد. يقدمها الأعلام على كونها حركة واحدة و الحال ان لاعرق يجمع بينها. أما المريب في هذا الامر هو كونها جماعات بدون قيادة أو مرجعية واحدة تضبطها وهو مايتجعلها في منأى عن كل إنضباط او مسار أو تتبع.

إن ظاهرة الجنجويد لا تعبر عن نظرية المؤامرة بقدر ما هي تآمرطبيعي إلتقت عنده عناصر الفتنة التي يريدها الطرف المدبّر وإطلاق العنان لعناصر منفلتة لتقوم بعمل تخريبي يتناسب مع طبيعتها دون الحاجة إلى تكليف بمهمة. يتلخص التآمر في تمكين قوى التخريب والنهب والخروج عن القانون من الانفلات واستعمال أدواتها بمفردها و ذلك بتعزيز سبل نجاحها في تجاوز آليات حفظ النظام، إختراق العناصر الفاعلة فيها وإخراجها إعلاميا على كونها رمز تمرد شعبي ومؤشر على غياب سيطرة الدولة. بإختصار، هي إحدى علامات الفوضى الخلاقة. ليس هذا من قبيل استبطان المؤامرة ولا القول بأن طرفا بعينه يحرك الأحداث بقدر ما هو محاولة لفهم آلية عمل القوى الأجتماعية القابلة لإنفلات عندما تشعر أنها لا تخضع لمراقبة القانون ولا لعامل أو محرك خارجي مباشر. قد تكون محقة في قولها أنها ليست جزءا من المؤامرة، لكن ترابط العوامل على الأرض بحكم طبيعتها أكثر فاعلية من العناصر المتحركة فيه.

إن إستعمال مثال الجنجويد لا يعني أن الأمثلة المذكورة تمثل عناصر نهب و سرقة أو هي خارجة عن القانون أو أي شكل أخلاقي آخر بقدر ما تعني أن هذه القوى الإجتماعية لا تعي تفاعل حركتها في مجمل القوى السياسية في المنطقة وفي العالم وهي ،بحكم المناخ العام أو نقص وعي بعض أطرافها أو إنضباطهم، تتحرك بشكل طبيعي قد يتناسق مع خلفيتها الفكرية لكنه لا يعي مقتضيات العمل في المرحلة.

إن الناظر إلى مجمل الحركات الأجتماعية في الدول بعد الثورات يلاحظ صعودا غير مسبوق لعناصر من الأعداء التقليديين للدول الغربية، تلقت في أغلب الأحيان ترحيبا، بل ودعما مباشرا لها بالسلاح. المشهد الليبي يطفح بهذا المعنى بشكل جلي. لم تكن القوى الغربية بهذا المستوى من الغباء حتى تمد السلاح إلى أعداء الأمس القريب، بل وحتى اليوم. ولم تكن الأطاحة بالنظام البالي للقذافي أشد إلحاحا من محاربة القاعدة. نظام القذافي قدم كل أسباب الأستكانة للغرب طمعا في قبول التوبة، لكن الغرب منهجي و عقلاني لا يقبل التوبة من متمرد سابق وشبه نظام ليست له أسس ومعالم سياسة واضحة ومستقرة.

لقد كان تواجد الاسلاميين من أتباع الحركة الجهادية التي يتبنى فكرها بن لادن يزداد بشكل ملفت للنظر والسلاح يقع بين ايديهم، لم تكن ملاحظة الصحفي الفرنسي الجريئ تيري ميسان لوحدها من دق ناقوس الخطر في الغرب، بل كانت صحف أمريكية عدة طرحت الأمر على المسؤولين السياسيين. لم يصدق أحد أن أمريكا والغرب يساندون القاعدة في ليبيا على الأطاحة ب"ملك ملوك إفريقيا". هذه نفس الجماعة الأسلامية الليبية المقاتلة التي قرر مجلس الأمن وضعها ضمن الحركات الأرهابية سنة 1999 تتطهر بسرعة من التهمة ويقع دعمها للأطاحة بالنظام الليبي. وبذلك فقد يكون التوصيف الذي قدمته قناة فرنسا 24 الفرنسية، من خلال تقرير ميداني أظهرت فيه بعض الثوار يحتسون الويسكي في مسامرة على خط النار، من قبيل التشويه لثوار متدينين أو تحييد الرأي العام الغربي الحساس للحركات الجهادية.

ميدانيا لم يظهر في ليبيا بعد ثورتها المظفرة أي أثر لخطاب قاعدي أو تهديد لأمريكا أو الغرب مما تصورهم الناس من أتباع بن لادن. لقد سبق حيا أيمن الظواهري هذه الجماعة في تسجيل صوتي له سنة 2007 وأعلن صراحة أبا ليث الليبي من التنظيم الليبي و من أتباع تنظيم القاعدة أيضا. نعم ظهرت أشكال قد تفهم على أنها من التدين السلفي والتشدد، لكنها أفرزت جماعات جهادية تعمل في إطار تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي لكنها لا تهدد الأن أمن الغرب. رغم إعلان التنظيم تغيير اسمه إلى الحركة الأسلامية الليبية و الأنضواء تحت المجلس الوطني، فأن الخلفية الفكرية لا تتغير في يوم وليلة. مع العلم أن من أهم قياديي الجبهة، عبد الحكيم بالحاج، كان من الأفغان العرب الذين سجنوا في ليبيا بتهم من بينها علاقته القريبة بالملا عمر، كما قبضت عليه المخاربات الأمريكية و سجن في بانكوك. ألمثل هذا تعطي أمريكا السلاح؟

حل اللغز في أسلوب عمل الجنجويد. إنها إطلاق العنان لمن يريد أن يعمل في سياق محدد وتوظيف الحركات توظيفا يتلاءم مع طبيعة المنطق الدخلي الذي يحكمها بإعطائها كل أبعاد تحركها دون أن يكون لها هيكل و تنظيم محكم ومربع محدد للمهام، إنها إحدى أذكى أدوات الفوضى. أنت لا تحتاج إلى أن تطلب من معتوه، والمثال هنا يضرب لتقريب الصورة وليس للجنجويد أو الثورا في ليبيا، أن يخرب و تعلمه كيف يقوم بذلك، فمجرد ترك المجال له ليفعل ذلك هو عين حسن التصرف في مواردك وإمكانياتك. إذا تأخذ حركة القوى الإجتماعية المطلوبة مجراها الطبيعي بمجرد فسح المجال لها للقيام بذلك. فلا الجماعة المقاتلة (الحركة الأسلامية) عملاء لأمريكا وكلاب ظالة تخون وطنها ولا الجنجويد جنود المخابرات الأمريكية. إلى هذا الحد تظهر الحركات الأسلامية بعيدة عن مشهد المؤامرة، كما هو الشان بالنسبة للجنجويد. كل ما في الأمر هو إلتقاء مصالح قد يبدو عفويا و شعبيا ومبررا جدا. والأمر لا يخلو من حسن نوايا إذا ما نظرنا إلى ما يعنيه تسليح أطراف إسلامية ناضلت بالسلاح والذخيرة لقرون من أجل إقامة دولة إسلامية. إنها الوأد الحتمي لتاسيس دولة مدنية ذات تصور ينبع من مشروع حضاري متكامل يصاغ بقلم بعض "المفكرين" المسلمين لا باسلحة المقاتلين. السبب هو أن منطلقات الحركات الجهادية تبقى بعيدة عن تحقيق فهم متوازن لأسس دولة عصرية في مجتمع دولي عولمته التقنيات والارتباطات الأقتصادية قبل أن تنخرط دوله في المنظومة الأقتصادية العالمية بالشكل المريح لها. ‘ن التقسيم التقليدي للمجتمعات عل فسطاطين، حسب تعبير المرحوم أسامة بن لادن، كافر و مؤمن يضع المجموعات من غير المسلمين في خانة الأعداء أو أهل الذمة. إذا في حركتها الطبيعية ستتحول الحركات الأسلامية التي تنعت بالمتشددة إلى قوى معارضة خارج اللعبة الديمقراطية وإلى مجموعات مناوئة تجد في فهمها للنص ما يسمح لها بالانتقال إلى العنف و الجهاد. إن إمكانية أن يقود الصراع إلى عنف وفوضى تبقى قائمة ويبقى فقط على القوى الناسجة لخيوطه ان تعرف كيف تبدأ حركة هذه القوى لتأخذ مسارها الطبيعي. إنها الجنجويد إذا!

بالعودة إلى المشهد التونسي المدني المسالم، والذي قطعت فيه التجربة المدنية خطوة هامة أذهلت كلا من أصحاب عقلية المؤامرة وصناعها على حد السواء، فلم يكن أصحاب نظرية المؤامرة قادرين على تصور وصول النجاح إلى هذا الحد، كما أن أصحاب المؤامرة ممن فقدوا مصالحهم في ظل التوازنات الجديدة يئسوا من عودة المنظومة القديمة. لكن.، وبعيدا عن تصور قوى طواحين الهواء، يظهر المشهد الجنجويدي جليا في التحركات التي تنسب إلى التيار السلفي. بعيدا عن أوجه التشبيه اللاأخلاقي بين حركة السلفيين وغارات الجنجويد للسلب و النهب، يبقى في الصورة ركن مهم يتمثل في إنعدام المرجعية التنظيمية الواضحة والخط السياسي المؤصل الذي يحترم قواعد اللعبة السياسية. برغم وجود تنظيم وقيادات يبقى كثير من الغموض يلف الحركة السلفية الجهادية وغير الجهادية. فيبنما يتمسك قادتها بالعمل السلمي ويتنصلون من الحركات الطائشة والمدبرة ضدهم، يتورط بعض منهم في عمليات تمرير الاسلحة والدعوة إلى العنف، لعل المشهد يذكرنا برسالة الشيخ حسن البنا "ليسوا إخوانا و ليسوا مسلمين" التي تبرّأ فيها من التنظيم الأخواني السري في نهاية الأربعينات من القرن الماضي. إذا أخذنا الصورة على كونها تجسيد لمرحلة نمو طبيعي للحركات قد يصعب فهم الحالة الطفولية لحركة من الحركات الأسلامية بعد مرور ما يقارب القرن على الحادثة الأولى، وبين هذه الصورة الغير متناسقة مع لحظتها التاريحية ومسار التاريخ كمراكمة للتجارب، يبقى الأفق مفتوحا على أخطاء أكثر جسامة وتحركات متناسقة مع طبيعة الحركة السياسية، قد تأخذ كل مداها العنيف بطيبيعة خلفيتها الأقرب الى المقولات العامة منها الى البناء الفكري السليم، وبذلك تختلط حركتها مع مجمل الحركات الطبيعية الأخرى، تلتقي في نفس سياق الفوضى مع شذاذ الآفاق والغزاة وقطاع الطرق من حيث لا تدري. هذا ما قد يحدث لكل حركة تنزلق إلى ساحة العنف واالفوضى أو تساق إليها بحكم العاطفة وعدم ضبط القواعد. قد ينتسب إلى السلفية أي كان ويمثل أي كان دورها بمجرد إمتطائه صهوة جواد مقولات الدينية معينة و تأخذه الحماسة إلى حد نصرة الدين بالجهاد ردا على إستفزاز طلاب الفتن. ليس في هذا إستنقاص من الخلفية الفكرية لطرف ما لكنه سيناريو أصبحنا نرى إمكانية حدوثه وما تصويره بهذا الشكل إلا دعوة إلى العمل باسباب تجنبه. بل قد حدث بالفعل في منزل بورقيبة وسجنان ببنزرت، مع التضخيم الاعلامي. فقد إنتشرت رواية ان البلطجية،مثل الجنجويد، امتطوا صهوة فرسانهم بلبس لحية مفتعلة ليبدو على هيئة السلفيين. فعلا "ألصقت اللعنة بالسلفيين"، لكنهم يبقون جزءا من المشهد.

الجنجويد على فرس الدعوة:

مرة أخرى أوضح أن ما يعنيه المقال بصورة الجنجويد ليس إساءة للأطراف المذكورة بل هو صورة لقوى فسح لها المجال لتعمل بحكم طبيعتها فأنتجت فعلا فيه بذور الفتنة والفوضى من حيث لا تحتسب أو ترغب ربما. يبدو أن فسح المجال لقوى الجنجويد لتحدث مجرا طبيعيا من الفوضى لم يعد مجديا بالآليات السابقة، فظهرت على السطح موجة الدعاة الأسلاميين والمتكلمين من مختلف الاتجاهات. مرة أخرة نحن إزاء حركة عفوية ومبررة لدعاة أتوا ليبلغوا أصواتهم لشعب متعطش إلى فهم دينه بإعتباره مقوما من مقومات هويته. يأتي دعاة من سياق إقليمي مختلف وبشحن عاطفي قوي وكلام متشدد ليقوموا بفتح عقبوي جديد لشمال إفريقيا. لا نريد لإخوتننا أن يخطؤا مثل السيد الصحابي الجليل عقبة ولا أن يلقوا مصيره. نحن أمة واحدة إلا أن ترسبات تاريخ التقزم والخلفية التعليمية و السياق الجيو سياسي جعلت من الأختلافات عاملا يجب مراعاته في المسائل الفقهية كما في السياق السياسي أيضا. وبذلك فإن الدعوة إلى مبارزة الأسلاميين للعلمانيين في شعارات إستفزازية وسباب لايليق بمجتمع مدني متحضر هما دعوة إلى الفتنة. حتى ولو لم يكن الدعاة من طالبي الفتنة فإن التجييش الحاصل من خطبهم التهجمية التي يتصورون أنهم ينصرون بها الدين ويرفعون لواءه، هي تأجيج للمشاعر وخلق لحرب لا مبرر لها ولا تخدم الدين الحنيف في شيئ.

وما أدرانا أن هذه الموجة من الخطباء لا تنقل صراعات الفقه إلى إستقطاب طائفي لسنا في حاجة أليه أو خلق لصراع مذهبي موهوم نتلهّى به في مرحلة دقيقة من تاريخ الأمة حتى يقع الأستفراد بأعدء أمريكا وإسرئيل واحدا واحدا ومن أهمهم قوى المقاومة؟ هذا الأمر بدأت تتجلى ملامحه في ظل حرب باردة بدأت تتأسس ضد إيران. اما من جهة اصحاب الشأن في تونس فإن ترك الأمور تسير على علاتها لعل في ذلك ما يخفف العبئ على الشحن السياسي ضد النهضة أو يرضي قاعد شعبية عريضة تملأ صناديق الأقتراع لصالحها، فهو من قبيل اللعب بأوراق خاسرة. لا أعتقد أن المغزى من السكوت يعبر عن هذه الرؤية بقدر ما هو من دواعي حرية الفكلر.

لا ننسى أن الحركات العفوية لجماعات غير مسؤولة وغير ضابطة لعناصرها أو متعرفة على الدخلاء عنها هي فوضى أخرى لا تقل أذى عن فوضى الجنجويد. ثم أن ترك الحركة الطبيعية للأشياء تتدحرج في مسارها المتاح لها هو عبارة عن تشجيع غيرمباشر على فتنة في حد ذاتها. لعله من المنطقي أيضا الحديث عن نفس العيب التنظيمي الذي تعاني منه الحركات الأسلامية في مجملها والمتمثل في غياب التوصيف الكامل للحركة بما هي و بما ليست هي. أعني بذلك أن يتعرف المنتمون وعامة الناس إلى حدود ومجال الخلفية الفكرية والسياسية للحركة حتى لا يقع الخلط بين الأفهام واللبس بين الخلفيات. إن الرضا المبطن عن أسلوب الدعاة و محتوى تناولهم للشأن السياسي يفهم منه مستوى من التحليل والفهم ويخلط بين ما تطرحه مجمل التيارات الفكرية الأسلامية. فتشجيع قواعد وكوادر حزب ما لهذه الظاهرة لا يتناسق مع الطرح الحداثي للحزب. فطرح مسألة الديمقراطية للتكفير مثلا وفي خطب جماهيرية هو ضرب للمشروع الوطني الذي إلتقت عليه كل القوى السياسية الفاعلة وهدم للبناء الديمقراطي الحديث. فمن الضروري العمل على توضيح ماهية كل حركة بما لها من منطلقات فكرية و عقائدية و بما لا يشمله مجال عملها السياسي. إن السكوت عن الدرجات العالية من النشاز قد يجمع عددا أكبر من المنتمين لكنه في لحظات فارقة من المسيرة يؤدي إلى الأنشطار، برغم الولاء الكبير للمشروع.

في الجانب الأخر من الصورة يقبع ثلة من الحداثيين الذين لم يفيقوا بعد من صدمة نتائج الأنتخابات. أقنعهم تفكيرهم الذي توقف عند زمن الصدام مع "الخوانجية" سنوات الثمانينات بأن الحركة تقع ضمن تصنيفاتهم الأيديولوجية الصارمة كحركة رجعية متحالفة مع قوى الرأسميالة المحلية والعالمية. ، وبذلك لا يمكن لحركة كهذه أن تقود منهج الأصلاح و الخوف كل الخوف من أسلمة الدولة، الأمر الذي يعني بالنسبة للبعض قضاءا على حرياتهم الشخصية وإرتدادا إلى في مستوى الوعي الشعبي العام. برغم كون العنف الثوري كان مبررا من الجميع فإنه والحق يقال كان عنف الجماعات الأسلامية أشد وقعا و ترك في أنفس من عاين تلك الفترة إنطباعا بأن طالبان مرت من هناك. إلا أنه أن يبقى الأنسان حبيس الماضي بأخطاء إرتكبها الجميع أمر غير مبرر. آن الأوان أن ينظر إلى تلك الفترة بشيئ من التصالح والموضوعية.

يمكن أن تمتد حركة الحداثيين لتشمل أطيافا من اليسار ذي الأرتباط بنظام المخلوع وبقايا من المناضلين النقابيين الذين هالهم أن يفقد تؤول الثورة إلى غيرهم وألا يروا ثمار ما قدمته عناصرهم من نضالات نقابية مواكبة لتحركات آخر شهرين في عمر الحاكم السابق. لا ينكر إلا جاحد أن النقابات قامت بمساندة تحركات سيدي بوزيد والقصرين و تالة ثم قبل ذلك، ولو بشكل محدود، تحركات الحوض المنجمي، التي قادها ميدانيا ثلة من مناضلين غير إسلاميين. أمام هذا الأقصاء القانوني و التجييش المتواصل ضدها، ترى هذه القوى مستقبلها في خطر و حركتها في تقلص. بادر البعض بمد قارب النجاة عبر مشاريع مختلفة رأت الفرصة سانحة لتظهر فشل الحكام الجدد وتبعث الروح في المشروع البورقيبي القديم. رغم ما يمكن أن يعنيه إلتقاء كل هذه القوى من منافسة للنهضة و الأحزاب المتحالفة معها، حتى ولو تجلى ذلك في إئتلافهم في تيار أو حزب واحد، فإنها لا تمتلك العمق الشعبي اللازم لتصبح قوة سياسية لها إعتبارها في ظل اللعبة الديمقراطية النزيهة. لكن درجة إندفاع عناصر عدة ضمن هذا التيار الواسع وعدم توفر أسس الحوار الوطني الأيجابي وعدم تخلص النخب من رواسب عقلية الأقصاء والأستئثاريجعل درجة الكره كبيرة والتداعي إلى الثأر ممكنا. مرة أخرى نحن إزاء حركة طبيعية تدفعتها عوامل تتجاوز السياسة إلى المشاعر الأنسانية التي قد تجعل مصلحة البلد في درجة ثانية بعد مصلحة الحزب والفكرة و الفرد. لا يقبع الأمر داخل مربع المؤامرة بقدر ما هو دليل على وجود قوى إجتماعية و سياسية قابلة لأن تتحول حركتها إلى طرف مهم في ميزان الأحداث إذا ما وقع الأنزلاق، لاقدر الله.

يبقى المكون الفكري الثالث والمركزي من حيث الطرح، الغائب عن أضواء الأحداث ومجرياتها غير مساهم في التجاذب القائم لا نئيا بنفسه لكن صوته لا يكاد يسمع من بين الصخب. يقبع التيار القومي العربي في ركن منزو لكنه غير شديد. عصفت الاحداث الأخيرة التي إبتدات بسقوط القذافي وعرجت على ما يقع من مجازر في سوريا بمقولات قومية افسدتها سياسة الأنظمة ولم تواكب الطروحات السياسية المتناحرة. لقد كان الفكر القومي المتأصل أداة مقاومة ومنهج ممانعة في كل المراحل التاريخية للأمة فكان عنوان قومية المعركة والرؤية الشاملة لمجابهة مشاريع الأستعمار والصهيونية ومشروع الوحدة العربية كطوق نجاة للكيانات الجغرافية المتشرذمة. لكن بتكرارها و جمودها تكلست كل هذه المقولات وأصبحت عاجزة عن إستقطاب الرأي العام أو صياغة مشروع لحزب يقنع قاعدته، فيما بالك بإقناع قطاعات شعبية أوسع من غير المثقفين والمنتمين. صحيح أن عامة القوى الشعبية تساير خطابا يلامس مشاعرها وإحتياجاتها ومدى فهمها المحدود أحيانا بدل الخوض في أسس فكرية شاقة المنال مثل "نظرية الثورة العربية" للمرحوم عصمت سيف الدولة، لكن يبدو أن آليات تحليل وخطاب التيار القومي لم تعد تهيمن على الموقف الحالي، رغم محورية قومية المعركة، إستلهم التيار الاسلامي هذه الفكرة ووظفها ويسوقها ضمن الطرح الأسلامي الجديد الذي "إفتك" من القوميين عروبيتهم، بعد الألتقاء ضمن المؤتمر القومي الأسلامي في بيروت قبل نهاية القرن الماضي، وأصبح مدافعا عن الهوية بشكل متوازن لا يكرر مقولات الأسلمة قبل العروبة التي كان يرددها زمن الثمانينات. كان من المفروض أن نرى تقاربا أفضل بينهما ودورا أهم لمسألة القومية في فكر الأسلاميين. كما أن الحركة القومية في كثير من جوانبها بقيت حركة ثقافية تنشر الوعي بقضايا الأمة و تعمل على تثقيف عناصرها بدل العمل في السياسة بشكل كامل. قضت الأنظمة الرافعة للألوية القومية تقريبا على البعد الشعبي للتنظيمات القومية، وهو ماكان متوقعا بعد حرب الخليج الثانية بصفة أوضح، فلم تقف ليبيا القذافي موقف المساند للعراق في حربه وتخلت حتى عن دعمها لكل الحركات الثورية. يضاف إلى كل هذا غياب الزعامة التي يجمع عليها عامة القوميين لتجعل منهم كيانا موحدا يستعيد صوته في خضم الجدال القائم على الأقل. وولئن أصبح الطرح الأسلامي هو سمة العصر فأن الحركة القومية لابد ان تعيد صياغة أدبياتها وتحيين مصطلحاتها إن أرادت البقاء. لعل الوضعية الحالية الهزيلة للقوميين هو ما يجعلهم خارج سياق الحركات التي ما أن تاخذ وضعها الطبيعي وتتاح لها الحركة حتى تصبح جزءا من خلط الأوراق والتصادم الذي تتسارع بإتجاهه أكثر القوى السياسية والأجتماعية.

يبقى جانب مهم من الخارطة لا يخضع لأنتماءات أو حسابات سياسية بقدر ما يرجح الكفة في أي إتجاه شاء ويحرك دفة الأحداث، إنها مسرح عمل قوى الجنجويد في مجتمعاتنا والجانب المتأثر بمجمل أفعالهم. تبقى الساحة الشعبية بكل ما تتركه التجاذبات السياسية والتوظيفات الحزبية، بل وحتى الأستعطاف الحزبي قبل الأنتخابات من قبيل إملئ المعدة يستحي الفم، بعيدة عن السيطرة والتقدير. إنتفضت الساحة الشعبية بدون تاطير حزبي معين وإقتلعت جذور النظام السابق في وقت كان فيه البعض يتحدث عن يأسه من الشعب بحكم فساد الماكينة الحاكمة الصانعة له.

إلا أنه بسبب غياب الحس الوطني المسؤول وإنفلات الحركة من عقالها بعد أن كبلتها أيد القهر البوليسي لعهود، اصبح التحرك الشعبي في أحيان كثيرة غير مامون العواقب لما قد يفضي إليه من شحنات التفريغ والثأر من مؤسسات قهرته بإسم دولة القانون وهيبة الدولة. حتى أضاعت منه كل حس وطني و أصبح الربح الآني للفرد أهم من حماية الدولة ومؤسساتها. بالنسبة لقطاع واسع من الشعب الدولة تعني المغنم الذي إستاثرت به أقلية وحرم هو من نصيبه، وكل فرصة لنيل نصيبه مبررة مهما كانت الوسيلة. قطعا، هذه ليست عقلية المواطنة ولا هي بالعقسدة التي تبني وطنا. مع إزدياد الأحوال المعيشية سوءا وتدخل أباطرة الاستغلال والأحتكار ليثروا على حساب لقمة الشعب، إزداد التفكير بما هو أنٍ وذاتي وظهرت الشكوى بمرارة بعد سنين من الكتمان والمعاناة الصامتة. ظهرت صورمن الفقر الشديد عمل أعلام المخلوع على عدم الألتفات إليها. قتامة هذه الصور لا يكمن في غرابتها بقدر ما يظهر عجز المجتمع المدني، قبل الدولة، على معالجتها. هذه الصور ليست غريبة على مجتمعات الأرياف التي هيمن عليها الفقر وشظف العيش عهودا كانت فيه حبات القمح نادرة في مجتمعات الخماسة بصفة خاصة. لكن غياب آليات التدخل في تلك الفترة حالت دون القضاء على هذه الظاهرة. أما اليوم، فإن المجتمع بحاجة إلى تكوين جمعيات تتدخل ميدانيا اين تعجز أليات الدولة على الفعل مباشرة و بشكل عاجل وتسدّ منافذ العوز والمعاناة. لقد قامت بعض الجمعيات بدور فاعل في مساعدة الناس خلال موجة البرد التي إشتدت في شهر فيفري 2012 في مناطق الشمال الغربي. في نفس الوقت يمكن أن تتدخل أليات الجمعيات المدنية التطوعية لضمان وصول صوت الناس المعزولين بحكم الجغرافيا و قلة الأمكانيات إلى أجهزة الدولة، في هذا السياق أدعو إلى المساعدة عل بعث جمعية لمحاربة الأقصاء والتهميش كفكرة في أذهان الناس وكممارسة لايزال قطاع كبير من الموظفين والعقليات الأدارية تمارسها يوميا. إن محاربة الاٌقصاء والتهميش سيقلل من تاثير بقية القوى السياسية والأجتماعية في الأوساط الشعبية العريضة. في غياب تأطير مباشر و تناول جدي لمشاكل الناس تبقى التحركات الشعبية قابلة للتحول إلى جسم ينساق إلى الفوضى في ظل الواقع المعيشي الصعب والأستقطاب السياسي النشيط.

مرة أخرى يكبر التحدي بتعدد قوى ظاهرة الجنجويد، لكن البناء الثابت لابد أن يتعرض إلى العواصف ليثبت قدرته على الصمود.



[1] http://en.wikipedia.org/wiki/Janjaweed

[2] نفس المصدر السابق

No comments:

Post a Comment