مجاوزة اللزوم

Monday, February 27, 2012

في مسألة الأسلام السياسي من جديد، من تصيّد السحرة[1] إلى أيقونة العصر

في مسألة الأسلام السياسي من جديد،

من تصيّد السحرة[1] إلى أيقونة العصر.

يستعمل مصطلح تصيد السحرة witch huntingفي سياق لجنة السيناتور الأمريكي ماكارثي في سنوات الخمسينات التي عهد إليها بالبحث عن المندسين من الأمريكان المساندين للمد الشيوعي. عرفت هذه اللجنة بالتجاوزات الضخمة في حقوق الأنسان والتنكيل والتعسف في الأتهامات الغير قانونية في حق العديد من الامريكان. وكتب عنها بأسلوب السخرية والتعريض الشديد عديد من المثقفين من أمثال أرثر ميلر في مسرحيته الشهيرة البوتقة (The Crucible).

في مثل لجنة جوزيف ماكارثي، إتخذت الحرب على الإرهاب المتمثلة في محاربة المتشددين الإسلاميين شكل التضييق على مظاهر التدين والإنتماء إلى الأسلام. فقد كان يكفي التردد على المساجد بكثرة وإطلاق اللحية لكي يصبح الفرد في موقع شبهة. وكما الإتهام بممارسة السحر، فإن الأتهام بممارسة ودعم الأرهاب أصبح محاكمة للفرد على نواياه وترتيبا لسيل من الاستنتاجات التي قد تضع أي شخص في حكم الأرهابي. لقد كان وضع الخوف وفشل الأليات البوليسية وبث الرعب وإنعدام الأمن السمات البارزة لكلتا الحالتين. ففي المثالين، يعود الخوف إلى قوى مجهولة تعمل بآليات التخفي والمباغتة. لذلك إعتقد العقل المكارثي أن الحيلة تكمن في المبادرة والهجوم ولو بتجاوز القانون كما حصل في البشاعات التي أرتكبت في قوانتانامو وغيره من السجون السرية التي كان ينقل إليها المشتبهون الذين يقبض عليهم كغنائم حرب من مخابرات دول مثل باكستان. لقد أوغل أباطرة الصيد في جمع أكبر عدد ممكن من المتهمين و بيعهم لآلة التعذيب والتنكيل. لقد كان موسم الصيد مدمّرا لأرواح عديد الابرياء ولكنه عبّر عن نمط من التعامل غير الغريب على التاريخ الأمريكي مع الأعداء وأيضا مع من يقع في شبكة صيد الأعداء. كما أنها حرب دينية بأمتياز من منظور الغرب، كما عبر عنها بوش في زلة لسان مقصودة! واصاب الهلع الشديد الحكومات أكثر من الأفراد.

من جديد لم تفلح حملات الصيد البشري في إقتلاع الخوف من الأسلاميين بل فشل المشروع الأرعن في إفغانستان والعراق وعوض أن يوفر الحماية لأمريكا وإسرائيل،أصبح الطرف الأخطر في قوى المقاومة الواعية أكثر سيطرة على مشهد التوازن في المنطقة. بل إستغلت إيران الصفقات للعمل في مشروعها النووي وتبني توازن يمنع أمريكا من المرور إلى المنطقة إلا عبر بوابتها. فبدل التخلص من الخطر الاسلامي وضرب أسباب القوة في العراق ونشر الفوضى الخلاقة، عملت قوى ذكية و عنيدة في المقاومة على ضرب التوازن الأقليمي بهزيمة صيف 2006: المعركة التي عجز فيها جيش العدو عن التقدم لأمتار مرات في جنوب لبنان و أندحر أمام ضربات المقاومة، ثم يكرر العجز ذاته أمام كيان سياسي أضعف في غزة فيفشل في إقتحام مدينة هدمها الفسفور الابيض إلاّ من مجاهدين مرابطين. لم تكن النتائج لتقف عند حد فشل العسكر، بل فشل مشروع الخنق في غزة وإنهار الجيش الذي لا يهزم في فلسطين المحتلة وبدأ التشكيك في العقل والمعدات والمعنويات بحسب تقرير فينوغراد الأسرائيلي نفسه. الصيد هذه المرة بأيد اسرئيلية لكنه ضمن خط أمريكي أيضا تآمرت فيه الدول العربية سكوتا، لعبا تحت الطاولة، مباركة أو حتى مشاركة. وسكتت أصوات عديد المفتين ورجال الدين تحت عنوان ضرب الشيعة جائز بالمداراة أحيانا و خراسا حينا آخر. لكنهم لم يجدوا مبررا عندما قصفت غزة غير الشيعية! في الحالتين ينال الصيد، صيد الأعداء للسحرة، حركتين إسلاميتين مقاومتين هما حزب الله وحماس. وفي نفس السياق تشن الغارات على المدنيين في إفغانستان لصيد بعض أبناء القاعدة وطالبان ضمن الأطفال والشيوخ والمدنيين العزل. لا ينال الصيد كل المسلمين طبعا، بل يستثنى منه كل من سالم وهادن وبارك المشروع السياسي وسكت عن الظلم في العراق مثلا.

فلمن لا يرى من خلال الغربال[2] ولايزال ينظر إلى المسألة بعين الأستقطاب المذهبي مثلا، كل من كتائب الصدر وحزب الله شيعة. الأول طرف في التطاحن المذهبي وأداة ذبح بها كثير من العراقيين، الثاني حزب مقاوم و فصيل سياسي حرر أراضي عجزت عنها الجيوش النظامية وأسرى عجزت عنهم جلسات السلام الحميمية. توقفت آلية التحليل بالمذاهب إذا! ولا غرابة أن يطال الصيد الأمريكي حزب الله دون كثير من التنظيمات الأسلامية الشيعية. في المحصلة حملة الصيد تخيّرت القوى الفاعلة وإستهدفت المشروع الاسلامي سواءا أكان تننظيما عالميا أو حزبا سياسيا يعمل داخل حدود بلده.

لكن الناظر إلى مابعد الثورات العربية يلحظ غيابا لأسلحة الصيد في التعامل مع الأحزاب الأسلامية الصاعدة في المشهد السياسي. ضمن الصورة التي رسمها المفكر الألسني ناعوم تشومسكي, لا يمكن أن تبارك أمريكا الثورات، فهي تلتف عليها بإخفاء البندقية ورمي الانشوطة. فلماذا تصطاد أمريكا إسلاميا و تترك آخر؟

مثلت الأحزاب الأسلامية أيقونة عصر مابعد الثورات لأسباب وقع تناولها فيما قبل لعل أهمها آليات التحليل السياسي لدى غالبية الناس التي تتسم بالوثوقية في أي مشروع إسلامي حتى قبل فهمه. و كذلك تمكن بعض هذه الأحزاب من بلورة مشروع هوية ومرجعية متأصلة في وجدان الأمة. وبما أنه حاز على رضا الناس، لم يعد مجديا محاربة شرعية الثورات بقدر ما يقتضي الحال مسايرتها والعمل من داخل أنظمتها. ومن جهة أخرى لم يعد بإمكان أية أطراف سياسية أخرى من الوسطية البرغماتية إلى الراديكالية الهيمنة على المشهد السياسي. فلغة التجييش الديني والمذهبي والفقهي القائمة بفعل فاعل ستبقى عاملا مهما في تحييد أي طرح آخر. بذلك يصبح خلق الأيقونة الاسلامية بإختلاف درجات وسطيتها ضاربا لكل طرح متوازن حتى من داخل المنظومة الأسلامية نفسها. نظرا لما تمثله المرجعية الدينية من بعد كبير في شخصيتنا، تبقى الركن المتحكم في صياغة أي موقف من الشأن العام والذي من خلاله تقيم تجارب الحكم والعاملين في الشأن السياسي. وبما أننا كمسلمين مشاريع أفهام ومرجعيات مختلفة حتى في داخل المذهب الواحد، فإن التجاذب يمكن أن يحتد كل مرة بين حدّي السلفية والمشروع الأسلامي المدني مثلا. يضاف إلى هذا طبيعة الحركات الأجتماعية في هذه المرحلة والمستوى التعليمي الموروث عن دولة الفساد في الأنظمة السابقة. وبذلك لم يعد الاسلام السياسي مشروعا يقتضي الصيد بأدوات الحرابة بقد ما أصبح مشروع تصيّد بآليات السياسة والأحتواء.

الملفت للنظر أن الثورات التي قامت كانت في أكثرها برعاية إعلامية خاصة من قنوات عربية معي!نة وبتدخل من الدول الغربية في بعض الأحيان، سواءا عسكريا في ليبيا و سياسأو سياسيا كما في اليمن وسوريا إلى حد اللحظة. بعيدا عن نظرية المؤامرة التي قد تذهب بعيدا في إعطاء بعض الأطراف الأقليمية دورا فوق طاقتها في إدارة الثورات، يبقى الدور الخارجي عاملا ثانويا من حيث الأسباب والنتائج. فقطر مثلا ليست نظاما أو بلدا يصنع الثورات ويلهمها ولا هي في موقع المدير لها. مرة أخرى أذكّر بدور العوامل الطبيعية المؤدية إلى قيام الثورات وإلى المؤثرات النفسية التي سآتي على ذكرها في سياق موضوع الهمة لاحقا. لعل من دواعي إحترامنا للتحركات الأجتماعية التي طالما حلمنا بها والنأي بتفكيرنا عن الغيبيات في السياسة أن ندع ما يريب إلى ما لا يريب. الدعوة إلى ترك ما لا يمكن إثباته بالوقائع والحيثيات والشواهد يفسح المجال إلى التحليل المنطقي الممنهج الذي يمكننا من تأصيل النظرة وفهم الواقع بشكل صحيح.

إذا، شملت الثورات رعاية خاصة لا تخلو من التساؤل والأتهام، خاصة وأن النتائج التي أفضت إليها إلى الآن هي تمكين الأحزاب الأسلامية من السلطة عبر إنتخابات نزيهة. يبدو أن المرجعية الدينية تجندت هي الأخرى لتعلن بلغة السياسة وعمامة الدين تأييدها لقوى الثورة في سياق ثورات بعينها. بدون أن ننظر إلى الأمر بعين إحكام قوى المؤامرة، يظهر جليا أن فسح المجال لمفت من وزن الشيخ القرضاوي ليخوض في السياسة بغير آلياتها لم يكن سوى ردفا للموقف السياسي ومساندة له بالمرجعية الدينية. لا ضير أن يصبح شيوخ العلم مساندين لحركة الشارع مادام فيها تحقيق لمصلحة عامة ودفع لمفسدة مطلقة تمثلها الأنظمة العربية العاجزة. لكن إعلان موقف سياسي بمصطلحات الدين للعمل على إسقاط نظام وغض الطرف على آخر يجعل الأمر مريبا ولو صدر من شخص في مستوى شيخ كنا بالامس نبارك مساندته لحريتنا الدينية في بلد كتونس ودفاعه عن الخط الوسطي المنفتح في الفقه. إعلان نهاية القذافي ومؤازرة الثورة السورية لا يتكرر مع الثورة البحرينية، ثورة طلب فيها الشعب حريته ورفع شعار "لا سنة ولا شيعة" الذي أسقط في كثير من التغطيات التلفزية ليظهر التحرك كمؤامرة إيرانية صرفة. لم تأخذ الثورة طابعا مذهبيا ولا حتى دينيا. لكنها كانت ستمثّل نقطة تحوّل في مصير الأنظمة التقليدية في المنطقة.

كانت الثورات تقود في كل مرة إلى سقوط الأنظمة وصعود قوى سياسية إسلامية، تباركها بعض وسائل الأعلام وتحتضنها بعض الدول، لكن يعلن الغرب عن إمتعاضه. لو سلمنا بأنها الديمقراطية وحرية الشعوب في تقرير مصيرها لكان علينا أن نرى نفس الموقف يتكرر مع الثورة البحرينية والتحرك الشعبي المهم، والذي نعت بالتململ الشيعي، في شرق السعودية. لم يبارك القرضاوي ثورة البحرين بل إعتبرها ثورة طائفية مصادرا بذلك حق الناس في بناء وطنهم بسبب إنتماءهم المذهبي. إن الخلط بين التأثير الأيراني الواضح في ديمغرافيا و سياسة دول الخليج بإعتبارها جزءا من مجالها الحيوي لايعني أن نسلب الشيعة في هذه الدول الحق في المواطنة. فلكونك شيعيا يمكن أن تأتمر بالمرجعيات الشيعية في قم أو حتى تعلن ولاءك لها لا يبيبح مصادرة حقك. مرة أخرى نخلط بين الأشياء فبدل أن نصنع مجالا حيويا يوازي المجال الأيراني، نرد على سياسته الممنهجة بتهم التدخل. لكل دولة الحق في صياغة مجالها الحيوي، لكن للدول الأخرى الحق في رفضه وإلزامها بمجال آخر أكثر واقعية. لا يرد العاقل على مشروع سياسي بمجرد التهم.

لم يغضب الغرب لقدسية حقوق الأنسان ولم ينتصرلمدنية الثورة بل ترك المجال للمعالجة الداخلية الأمنية البحتة لأن مصير الأنظمة التقليدية المتحالفة معه في الميزان والمد الشيعي بدأ يعطي عمقا آخر للدور الأيراني. المهم إذا إعتبرناها حركة دينية، فإن إقصاءها لا يعود إلى إسلاميتها بل بعلّة السياسة والمصالح. إما إذا إنخرطنا في القراءة المذهبية ولو منهجيا نرى أن الثورات السنية لا الشيعية هي المطلوبة على ما يبدو.

إذا نحن إزاء مشهد تتكثف فيه التناقضات حتى تفقد أنساق الفهم التقليدي مبررات إستعمالها. لقد بدأت تتشكل ملامح مرحلة جديدة لمجتمع دولي مثقل بأعباء الأقتصاد وبإنسداد للأفق لم تفلح فيه ترقيعات ضخ الأموال في الأقتصاديات المتهالكة. كما أن آليات التحكم وضبط مسارالأحداث تغيرت بتغير إستراتيجية التحكم ذاتها. مع أرتفاع تكلفة التدخل المباشر أصبح نظام التوكيلات والفرنشايز أجدى وأكثر تحكما في الموارد المالية والبشرية. كما أنه اضمن من حيث العواقب والتداعيات في حال الفشل. لقد رأينا هذه الملامح في عمل الشركات الأمنية في حرب العراق. ونراها الآن في تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة العربية. عوض إعلان الحرب على الحركات الأسلامية الصاعدة، تتولى الدول الغربية تدجينها وإستغلال الجدل الذي يخلقه وجودها في السلطة، مع ضمان وجود قوى إجتماعية قادرة على خلق الفوضى وإفشال المشروع متى تجاوز الخطوط الحمراء. لا يمكن أن نشك يوما في أن مساندة قوى المقاومة في فلسطين ولبنان يزعج امريكا بنفس القدر الذي يؤلم به إسرائيل. لذلك فإنخراط الأنظمة الجديدة في أي مشروع يدعم المقاوم ويطرحها كبديل عن مشروع حلب البقرة الميتة الذي يسمونه مسار السلام في الشرق الأوسط غير مسموح به من جهة المعسكر الغربي عموما. ولا يمكن تصور أي شكل من منافقة الغرب لنفسه بالرضا عن هذه الأنظمة وتدعيمها بالمال لأنقاض إقتصادياتها والسماح لها بتاسيس مشروعها الأسلامي. كل ما في الأمر هو مد لطوق النجاة من الجهتين وإستعمال لأداة الأنشوطة بدل الأسلحة التقليدية.

إن التعويل على الأيقونة الأسلامية كما يريد الغرب صياغتها في هذه المرحلة هو ضرب للمشروع المدني الحداثي بمرجعياته الأسلامية والعلمانية. إذ أن ما نشاهده من ردود فعل مستفزّة من مجموعات علمانية ومن ظهور لجماعات ترتدي اللحية يوم واقعة العنف وتستعدي كل مخالف غير منطقي في دول ثارت من أجل الحرية. كيف لثائر من أجل الحرية أن يحتكرها في اليوم الموالي للثورة؟ لا تبنى المجتمعات بدعاوي الأقصاء ولا بالقوى التي لا تقرأ الخارطة السياسية بوضوح. نحن بحاجة إلى جعل الأيقونة الأسلامية مشروعا فكريا حداثيا جامعا لا منفّرا وتحويلها إلى عمل سياسي واع وومنهج ومتناسق لا مجرد عمل برقماتي صرف أقصى مبتغاه أن ينقذ نفسه من الفشل في أول تجربة حكم.



[1] http://en.wikipedia.org/wiki/McCarthyist

[2] مقتبسة من الأغنية المعروفة: ألي ماشاف من الغربال.

No comments:

Post a Comment