مجاوزة اللزوم

Friday, February 17, 2012

الحلم الثوري: 1- - الاسلاميون وتحديات المرحلة تجاذب في خضم الضجيج والجدال :

1- الاسلاميون وتحديات المرحلة

تجاذب في خضم الضجيج والجدال

بعد أن برزت الخطابات الاسلامية بشكل مكثف في الدول التي حدثت فيها الثورات العربية، أصبح البديل الاسلامي واقعا تفاعلت معه المجتمعات المحررة من الأستعباد بإيجابية كبيرة تخللتها مواقف رافضة من قبل بعض القوى السياسية. ولئن كانت الأنتخابات التونسية والتحركات الميدانية الواسعة في كل من مصر وليبيا دليلا على شعبية الطرح الأسلامي، فأن المشروع بأكمله لايزال يتعرض إلى تحديات مختلفة منها ما هو متعلق بالمشروع ذاته وماهو مرتبط بالمخاوف التي تطرحها بجدية القوى السياسية والدولية في الداخل والخارج. مع أن التحديات الداخلية المرتبطة بالمنظومة الفكرية والايديولوجية للطرح الأسلامي تعد الأخطر على المدى القصير و أكثر منها على المدى البعيد، يبقى تحدي مخاوف المناوئين للمشروع والمعادين له قائما و بشكل جدي من زاوية الإقصاء.

قامت الثورات في بعض الدول العربية ولمّا تبلغ المجتمعات درجة الوعي السياسي الضروري للتعامل مع المرحلة وبناء المجتمع المدني المنشود. هذا الامر بديهي من حيث الاسباب والوقائع. فلم تتح لهذه الشعوب فرصة ممارسة الاعتناء بالشأن العام والخوض في المواضيع السياسية بكل حرية بشكل يمكن من افراز وعي سياسي متطور وفهم للمسألة السياسية في ترابط كل عناصرها. السياسة، من حيث كونها نظرة في الشان العام في ارتباطه بكل مكونات العوامل الداخلية وبموقع البلد والمؤثرات الخارجية، هي فهم شامل لا ينبغي أن يهمل مكونا على حساب الآخر. بقطع النظر عن الخلفية الفكرية للأشخاص فإن صياغة فكرة متكاملة وإنجاز رؤية واضحة حتى على المستوى الفردي أمر يندر في المجتمعات المتحررة حديثا من التسلط وإنقلاب الموازين. هذا الأمر ينطبق على المثقفين بشكل واسه، ناهيك عن الاجيال التي لا تقرأ وتلك التي تمارس الإلتجاء إلى الملهيات لسد فراغ الأنشغال بالمعرفة والفهم. من ذلك ان الاهتمام بالكرة مثلا كان مؤشرا على عزوف الناس عن تناول الشأن السياسي وتعويضا عنه حين كان إستعمال المفردات ذات المدلول السياسي إحدى المؤشرات التي تستعملها أجهزة التجسس في رصد الاشخاص وتسجيل إنتماءاتهم العقائدية للتأكد من نواياهم. في ظل هذا الوضع الذي يضع الخوض في السياسة خطرا كبيرا وجريمة لا يغفرها الفرد لنفسه إذا تدخلت الأجهزة القمعية للدولة، كانت حتى العقائد الدينية لدى الأفراد في دولة مثل تونس محل مضايقة وتتبع لأن التدين كان مؤشرا للبوليس على الأنتماء الى الجماعات الإسلامية. إلا أن كتم الأفواه و إشغال الناس بكل الملهيات لم يغيب عن لاوعيهم أهمية الشأن السياسي المتداخل أصلا مع كل نواحي حياتهم ومشاغلهم اليومية.

في ظل هذا الوضع المناوئ لكل مسعى نحو فهم الشأن العام والخوض فيه، نشأت أفهام منقوصة لم توضع على محك النقاش ولم تثرى بأدبيات التيارات الفكرية والسياسية. فقد كانت أغلب مصادر الأفكار التي من خلالها يتم تحليل الواقع السياسي مستنبطة من خطب ودروس دينية على الأنترنات مصدرها عادة واقع إجتماعي وسياسي آخر أكثر إنغلاقا ومن أفراد عامة من غير المثقفين ذوي الكتابات والرؤى المنطقية. كما أن السبب في تنامي إهتمام الشباب خاصة بالخطاب الديني الذي يرد عبر دروس محتواها تعبوي أكثر منه ديني يعود الى الإحساس بالخيبة بعد فشل المشروع التغريبي المعادي للإسلام الذي تبنته الأنظمة، صراحة أو مداراة. بعد أن تبين لعامة الناس فشل مشروع الدول المرتبطة بالغرب والحريصة على تحقيق مصالحه قبل تحقيق المصالح الوطنية، بدأ التفكير في رؤية مبسطة متوفرة ومتاحة للجميع فيها من اليقينية والوثوقية ما لا يتوفر في غيرها. وفر هذا المناخ الجهوزية التامة لتقبل الفكر المنبثق من رؤى إسلامية. فالإسلام مكون حضاري راسخ في وجدان المجتمعات المسلمة رغم غياب الإلتزام الديني لدى كثير من الافراد. قد لا يعبأ البعض منهم بالتطاول على الأخلاق العامة وعلى الدين والمقدس ذاته (سبب الجلالة والعياذ بالله)، لكن في لحظات عدم اليقين وتداخل الأمور والخوف من المجهول (مستقبل، إلخ) يكون اللجوء إلى الدين أكثر الأمور وثوقية وأجدى أنواع اليقين وأقربه الى الفرد. لذلك في اذهان هؤلاء يقارن مشروع الحكومات عادة بالمشروع المثالي الذي يطلب الإسلام تحقيقه. ففي حين يسود الجور والإحتقار مجتمع الحكم الفاسد، يضع الأسلام كل ما يتطلبه الحكم الرشيد من قواعد أخلاقية وسلوكية عامة ينبغي أن ينضبط بها الحاكم قبل المحكوم. ظل هذا المشروع المثالي أنموذجا حيا في وجدان الناس قبل أن تصوغه الحركات الإسلامية الحداثية في شكل مشاريع سياسية. وبقي ايضا راسخا في لاوعي الناس حلم العودة إلى زمن الأمجاد من عصر النبوة وما تلاه من خلافات راشدة. وعندما سقطت مشاريع الأنظمة قبل أن تسقط هي فعليا راينا المساجد تمتلئ بالشباب يتحدون المشروع التغريبي وصانعيه بأنماط تدين غير موروثة: اللباس، وضعيات أداء الصلاة، وغيره من مظاهر سلوك تحمل مشروعا لا يرتاح اليه الحاكمون. ولئن كان للناس الحق في تحديد الذوق المناسب لهم منطقا، فأن الظاهرة كانت لا تخلو من استحضار مكثف لمكونات بديل اسلامي غير متوافق مع تطور تفكير الحركة الأسلامية ذاتها. فقد تجاوز تفكير حركة الأتجاه الأسلامي (النهضة رسميا و بعد إنقلاب 7 نوفمبر) التاثر بالبديل الأجنبي ومظاهر التدين في المجتمعات الشرقية إلى صياغة مشروع كان أكثر حداثية وأقرب إلى المدنية. إلا أن هذا المشروع كان قد أستبعد من طرف السلطة وأطرافها من اليسار المتشدد المتحالف معها.

أما عند قيام الثورة فقد برز للعيان هذا المشروع كبديل حضاري جاهز أكثر إقناعا ووضوحا من المشاريع الاسلامية الأخرى سواءا القديم منها (حزب التحرير) أو المستحدث على الساحة السياسية في تونس مثلا (السلفية). مع حالة التعاطف التي حظي بها المشرد بهم من أبناء الحركة الإسلامية (النهضة بصفة خاصة) والطمأنينة التي عمت الناس وهم يرون الجماعة تتفهم مخاوفهم وتكذب الاشاعات الواهية من قبيل ترك النساء في البيوت والسماح بتعدد الزوجات. فقد كانت التطمينات التي أرسلتها الحركة والتودد الظاهر يبدد أيضا الصورة النمطية المغلوطة في أغلبها التي رسمها الإعلام الرسمي للنظام السابق. يضاف إلى كل هذا السجل النقي (سلوكا أخلاقيا) عامة للعناصر البارزة والقيادية في الحركة على ما بدى لعامة الناس. فقد بدأ البديل الأسلامي المتمثل في النهضة مقبولا وذا قاعد شعبية واسعة ومحل ترحيب لينال بذلك ثقة شرائح عديدة من أبناء الطبقات المتوسطة وأصحاب المشاريع الباحثين عن مناخ إستثماري مطمئن. في حين بقيت الطبقات الشعبية الواسعة تنتظر ثمرات الثورة ورد الأعتبار لها في شكل وعود ومكرمات وعطايا وهبات تعبر عن حسن النوايا وتجعلهم ينتظرون المزيد. فكما ابتزه النظام المخلوع بتصوير فرحته في أجهزته الإعلامية مقابل عطاء الدولة، قد ينتظر منهم سياسيو اليوم الولاء والتأييد مقابل مساعدات غذائية. في المحصلة شعر عامة الناس بالطمأنينة وهم يرون النهضة تزداد شعبية و أنصارا. كان هذا كما في تحليللات الكرة مؤشرا على أنها الفريق الرابح وذو الحظوظ الأكبر. وبما أن الأهتمام المفرط بلعبة كرة القدم كان قد اورث شريحة كبيرة من الناس آليات تفكير معينة بها يحلل أداء الفرق وتطرح أسباب مناصرة فريق دون آخر وتسرد تاريخيته وأفاقه المستقبلية في عالم الكرة، فقد كان المشهد السياسي مشابها بلاعبين أجدر بالمناصرة والدعم وآخرين فاشلين لا أمل لهم لا في الكأس ولا في البطولة. لم يكن هذ الطرح مهيمنا وحيدا على خلفيات تفكير الناس لكنه كان أداة من أدوات الفهم في غياب وعي كامل بالطرح السياسي على الميدان. المشاهد والمعاين للأسئلة الموجهة إلى قيادات النهضة مثلا يرى أن أكثرها كان يتمحور حول مسائل بسيطة ومواضيع جانبية لم يطرحها المناهضون الجديون للنهضة إلا تشويها ساذجا. في حين بقي النقد الجدي لمكونات المشروع النهضوي غير متاح إلا لقلة قليلة من المثقفين المنتمين في الغالب الى خيارات سياسية أخرى. لم يتسن طرح خلفيات المشروع في البداية لبراقماتية المرحلة وشعور الناس بضرورة تأجيل النظري والخوض في المستعجل والعملي بشكل أكبر. المهم لدى الشرائح الواسعة من الناس هو الأطمئنان إلى طرف يحقق كل ما نريد وما هو جيد لنا. بالنسبة إلى النهضة كان إقناع الناس في هذه المرحلة أمرا في منتهى البساطة وفي منتهى الأهمية لان المبتغى كان حشد الناس وزيادة العدد وشحن العواطف ورص الصفوف إستعدادا لنزالات عديدة متمثلة في الأستحقاقات الوطنية وغيرها. وبما أن الخطاب التعبوي كان لعبتها، فإن الحشد كان كل مرة يكبر ويزيد الخصوم حذرا ثم سخطا ونقمة. وعلى أعتبار أن المشروع في جزء منه إحياء للدين، تاريخا قبل أن يكون فقها، فإن التأويلات الفردية للمسألة على ممستوى عامة الناس هي مجمل مشاريع حالمة تتراوح بين التشدد واللين الكثير، تبقى الرؤية ضبابية حتى لبعض المثقفين. فأعطى الشعب في إنتخابات المجلس التأسيسي ثقته في من سيبنون الدولة الاسلامية المثالية كما تقدمها الخلفية المستبطنة بكل إطلاقيات ووثوقيات أحكامها كعدل تام وخيرات وفيرة وحاكمية لله وحده. هذا ليس نسبا لمشروع الدولة الاسلامية الى مجال الخرافة بقدر ما هو توصيف لمشروع ضبابي بعينه فيه من حسن النوايا والرؤى الوردية ما لا يبرره أو يقدمه بعض الطروحات الأسلامية. من الغريب أن المشروع الحداثي كان متميزا في تونس على مدى المراحل التاريخية. فثوربة الطاهر الحداد وعبد العزيز الثعالبي في القرن الماضي عبر عنها توازن الطرح النظري الذي قدمته عنه حركة النهضة في بعده المدني.

في ظل هذا الطرح الاسلامي المعتدل في ادبياته والمتوازن في أدائه، يظهر في جانب يزداد اهمية الطرف الديني الأكثر تشددا. يتخذ هذا الطرف عنوان تبني الخلافة لدى حزب التحرير والرجوع الى السلف الصالح مرجعا ومشروعا سياسيا لدى السلفيين. ويعود هذا التيار في أصول تفكيره إلى السلفية الجهادية وغير الجهادية المتناسقة مع تفكير ابن تيمية وما أعلد صياغته إبن عبد الوهاب. يمكن تصنيف هذا التيار الفكري على أنه إمتداد لرأي إبن حنبل في الأخذ بظواهر النصوص. ثم أخذ به إبن تيمية في محاربة البدع. ويقاس عليه اليوم إنكار الديمقراطية لأنها لا تأخذ بمقومات الشورى الإسلامية ورفض كل ما هو مستحدث في أمور الدين. كما أن السلفية تتبنى مبدأ الحاكمية لله عز وجل وهو ما يقتضي العمل بأحكام النص القرآني في تطبيق الحدود الشرعية. ويعتبر السلفية التخلف عن هذا المطلب بسبب مدنية الدولة أمرا غير مبرر. ما يميز هذه الدعوة هو عدم توفر أدبيات فكرية متطورة و يعتمد المريدون على الأفكار العامة المبسطة واليقينية التي تعود الى فهم تقليدي للدين من قبيل الأخذ بالمعنى السطحي المباشر للآيات القرآنية من قبيل عدم الحكم بما أنزل الله. كما يقع تبليغ هذه الأفكار عن طريق بعض القنوات الدينية الخليجية ومجموعة من الدعاة الذين يستعملون أساليب من قبيل التهييج والتجييش ومخاطبة المشاعر الدينية لأجيال و أطراف إجتماعية لم تنل الحظ المطلوب من مواكبة النقاشات الفكرية وفهم مشاريع النهضة المطروحة بشكل علمي وواقعي. إستغلت هذه الحركة الوضع العام في البلاد ومرحلة ما بعد الثورة وغياب مناخ النقاش الفكري السليم. وككل فكر دغمائي غير متطور في سياق الحوارالفكري والتفاعل الإجتماعي الطبيعي، تبقى مجمل الطروحات التي يتبناها التيار السلفي غير قابل للنقاش الأيجابي وتناوله يعتبر أحيانا تطاولا على الديني والمقدس. ثم ان التقسيم الاجتماعي إلى مسلم وعدو كافر يضرب المشروع الحضاري المدني الذي يجمع كل مكونات المجنمع. وما حادثة سجنان، بعيدا عن التضخيم والتوظيف الإعلامي، إلا دليل على تصور الجماعة السلفية لطريقة العمل. ثم أن حادثة النقاب في كلية منوبة يمثل صورة للتجييش الطائفي الايديولوجي وتغييب لمؤسسات الدولة بفرض طرح الجماعة. وفي غياب النقاش والتفاعل الحضاري، تنطلق موجات ردود الافعال المتشنجة وغير المسؤولة الداعمة لفرض الرأي بالقوة نصرة للدين، كما يرونه، إعمالا للنص كما يفهمونه. الجانبان المزعجان في الصورة هو سهولة الاستقطاب والتأطير و من ثم التوظيف للطاقات الشبابية بشكل مغلوط أحيانا من جهة، وإمكانية إلتقاء حالة الأنفلات التي يخلقها عدم إنضباط عناصر هذه المجموعة مع أي شكل من أشكال الحركات الأرتدادية للقوى المعادية للثورة، من جهة أخرى. في ظل عدم توفر ضبط قيادات هذه الجماعة لعناصرها تبقى البوادر الفردية وردود الافعال الطائشة ممكنة الحدوث وغير معلومة العواقب. بذلك يصبح التجاذب بين مختلف جوانب المشروع ذي المرجعية الأسلامية فيه كثير من الضجيج، لكون الحديث من جانب واحد ظاهرة لا توفر أرضية للنقاش والتفاعل. ثم أن التحدي الحقيقي أمام الطرح الإسلامي بمكونيه المدني المتطور والمحافظ هو فهم الوضع الدولي والأقليمي ومتطبات الداخل للبعد عن صياغة مشروع فشل قد يتجاوز مخططات المثبطين والمتآمرين على نجاح الثورة.


No comments:

Post a Comment