مجاوزة اللزوم

Wednesday, November 26, 2014

النمط التدافعي في مقابل النموذج التفاعلي في الطرح الفكري العربي

ترتبط مجمل الطروحات الفكرية بانماط سلوكية واساليب تفكير تسم اصحابها كما تعبر عن مستوى النضج الفكري لمجتمع ما في مرحلة فكرية معينة.  فقد نضرب مثلا على الترابط بين ما يطرح فكريا على مستوى نخبة المثقفين وعلاقته بانماط السلوك السائدة ما كنا نراه من تبني مثقفي مرحلة تاريخية ما لما هو مقبول شعبيا في ذلك السياق وتلك المرحلة التاريخية. ولعل ذلك في ارتباط بتأثر النخب بما يعتمل إجتماعيا وثقافيا من أفكار ومواقف وما يستوعبه العقل البشري في تلك المرحلة من تاريخ البشرية، وهو ما يؤدي الى صياغة أنماط فكرية معينة متجانسة ومتناسقة إلى حد يصعب معه تخيل الخروج من سياق النمطية هذا.  لكن خلاصة التجارب الإنسانية وما صاغته من نماذج متقدمة يفرضان التخلص من النمطية لأنها لا تساعد على القطيعة المطلوبة لتحقيق التطور النوعي في قيمة البدائل المطروحة.  فلا يمكن أن نخرج من بوتقة صنع الفشل بدون حصول تغيير نوعي ومباشر في طريقة التفكير ونموذج الطرح الفكري في مجتمعاتنا العربية.  كما أن مراكمة الصياغات التي تعتمد نفس النمط الفكري رغم إختلاف، بل في أحيان كثيرة تناقض،  مشاربها وأهدافها لا تحدث تغييرا في مستوى الطرح ولا في نوعية الإنجاز، وهو ما يجعلها دون مستوى المشروع الحضاري ولا حتى الطرح الفكري الجاد.  من جهة أخرى يعتبر التنميط الفكري والتحنط في الخلفية الأنطولوجية للمثقفين خروجا عن السياق التاريخي للتطور الأنساني، فأن يطرح الفكر البشري اليوم وبجدية وعمق أهمية التفكير والبناء التفاعليين كبدائل للتربية والسلوك وكسياقات عامة لطرح مجمل الأفكار والمشاريع المتفاعلة داخل سياق إجتماعي وسياسي معين. 
لا غرابة أن ينطلق الحديث في بداية القرن عن النماذج التفاعلية من الوسط التعليمي كبديل عن أنماط التعليم والسلوك التربوي التقليدي وكحلقة متقدمة من حلقات بناء التفكير النقدي، إذ أن النقد شكل راق من التفاعل الأيجابي مع المعطى الموضوعي ومع المحيط الأجتماعي والمعرفي، فإكساب الطفل ملكة التفكير النقدي هو بناء للتفاعل المعرفي وبداية لتشكل التفاعل الأجتماعي و الفكري فيما بعد.  فالمعرفة في نهاية المطاف هي بناء تفاعلي بين أطراف متشاركة ومتفقة على نموذج التأسيس والبناء، وليست بناءا أحاديا يقوم به المعلم في ذهن المتعلم بقصد شحن عقل هذا الأخير بالمعلومات.  نظرا لكثرة المصادر والمؤلفين في هذا السياق سأكتفي بذكر البعض منهم: Chittenden(2002)، Brown (2007)، Bardovi-Harlig (2013) و  Diane  Larsen-Freeman (1986، 1991، 2013)، المصنف الأخير يفسر دور غياب النماذج التفاعلية في إستيعاب المعرفة لدى المتعلمين. م من جهة أخرى، بشرت بحوث تربوية عديدة بظهور بدائل فكرية وطروحات ثقافية بديلة وحققت السبق في مجال تطور طريقة نظرتنا إلى الأشياء من حولنا.  فما طرحته Karen Ann Watson-Gegeo ( 2004) من تحول مفهومي، أو بشكل أدق كقطيعة معرفية، تنطلق من إعتبار المعرفة بناءا إجتماعيا يتأثر بالمسارات الثقافية والإجتماعية السياسية، وهو ما يؤسس لأجتماعية المعرفة في نهاية المطاف.  وتستدل كارن على بداية حدوث هذا الأنقلاب المعرفي بأن الدائرة أصبحت تساهم في صياغة المعرفة تفاعليا، بخلاف ما يعتقده اصحاب نظرية العالمية من تأثير المركز، أنطولوجيا أو إبستملووجيا.   من ذلك أن اللغة والثقافة والعقل تحدد شكل بعضها البعض عبر وسيلة الخطاب ومن خلال الوظيفة التفاعلية. 
إن كانت مباحث علوم التربية المتعلقة بإكتساب اللغة الأجنبية قد توصلت إلى أهمية المناهج التفاعلية الإجتماعية وضرورة ترسيخها، لا كممارسة بيداغوجية فحسب، بل كقيم إجتماعية تؤسس لمجتمعات إنسانية متفاعلة مسالمة وناجحة، فإن العمل بمقتضيات هذه الكتطلبات يعد اليوم عنصرا مهما في تحديد مستوى الأنسنة والديمقراطية والتطور والتحضر في المجتمعات البشرية.  ذلك أن إعتماد المنهج التفاعلي في تعامل مجمل المكونات الأجتماعية مع بعضها البعض لا يكون مجديا ما لم تتخلى المرجعيات والطروحات الفكرية عن أنماط التفكير التدافعي والصدامي الذي ينتهي بالإقصاء والعنف وفرض الأراء بالقوة.  إن كان أمر تخلف الأنماط التدافعية التقليدية تربويا أمرا واضحا من الناحية التربوية كما اسلفت الذكر، فإن ما ينجر عنه من بناء هش ومتنافر لمجتمعات بشرية تمتلك مقومات تجانس أكبر من أسباب التنافر التي يمكن إيجادها بداخلها هو عنصر هدم حضاري وشلل ثقافي وإنحراف سياسي. 
إذا ما طبقنا هذا التقسيم على مجمل المجتمعات العربية اليوم نجد أن تأثير التربية التقليدية وأنماط التعليم المقولب سواءا داخل الأسرة أو في المؤسسات التعليمية العمومية يظهر الخلل الواضح في منظومات التفاعل فيما بين النخب السياسية والثقافية.  لا ينبغي أن تكون الأجواء المتوترة والصراعات العنيفة وحدها المعيار المحدد لأوجه هذا الخلل، لكن غزارة المادة الفكرية المتموقعة سياسيا ودرجة التطرف في الطروحات، بالأضافة إلى دغمائية الطروحات وإستنادها إلى عقليات الأقليات العرقية واللغوية والمذاهب الفقهية هو شكل من أشكال غياب التفاعل، إذ أن الأعاقة التفاعلية بين الأقليات ومختلف التشكيلات الإجتماعية مثلا ينتج عن غياب للتفاعل الفكري والأجتماعي.  كما أن حضور الخطاب المذهبي الوثوقي والتكفيري ايضا هو ترسيخ لثقافة التدافع والتصادم ولأنماط التفكير التقليدي الذي لا يرقى إلى مستوى البناء الإجتماعي والحضاري.  من جهة أخرى، يعتبر الأنحسار المجتمعي في داخل الدول القطرية نفسها وداخل مقاطعاتها وأقاليمها الجغرافية ومكوناتها الفئوية، والذي غالبا ما يظهر كواجهة سياسية لمشاكل ذات طابع تربوي إجتماعي أو إقتصادي معيشي بالأساس، هو تعبير عن إعاقة تفاعلية موروثة لا علاقة عضوية بينها وبين المواضيع التي قد تكرح في سياقها. 
فمسألة الأقليات التي تبدو للبعض قضايا ومشاريع حضارية أو محض مؤامرات خارجية هي في الأصل تعبيرات عن رواسب فشل تربوي في مستوى بناء الفرد وغياب لثقافة التفاعل الأجتماعي.  بذلك تصبح درجة التماسك الحضاري معبرة عن ثقافة التفاعل والتعايش في أي محيط ثقافي وحضاري.  مقابل ذلك، يظهر الأنفلات في الوحدة الوطنية وغياب المشاركة الفردية و حضور الطروحات الإنشطارية وتقزيم كيانات الأنا في غياب الأخر مدى تغلغل أنماط ثقافة التدافع بين مكونات المجتمع والأمة ودخولها في مرحلة الصراعات العنيفة والتشتت المجتمعي.  إن المنظرين إلى هذا النوع من الفوضى لا ينظرون بجدية إلى أن العوامل الموضوعية المتمثلة في التفكير النمطي التدافعي والتي أدت إلى خروج مكون مجتمعي أو ثقافي ما عن إطاره الأوسع هي نفسها التي ستؤدي إلى خروج مكونات أخرى من داخل هذا المكون المنفصل وإلى سريان عدوى الأنشطار وما ينتج عنه من مآسي إجتماعية ومزيد من التخلف الحضاري.
  قد يكون التفكير التقليدي في نظام الولاءات، من قبيل الولاء للقبيلة مثلا، سببا في نزوع النمطية الى تحديد درجة التنافر وعدم التواصل بين الأنا والآخر، لكن الأشكال والتمظهرات التي نرى من خلالها خطابات وطروحات الأقصاء لا تمثل أبعادا قبلية محضة، فالخطاب التكفيري يخلق ولاءات عقدية مبنية على نظرة أحادية مقدسة ودغمائية ذات اسس فقهية بالاساس.  نفس الأمر ينطبق على الدعاوي والشطحات العرقية التي تريد أن تخرج من سياق الحضارة العربية الأسلامية بإبتداع هويات ولغات محصورة في الجغرافيا والديمغرافيا.  ربما يكون النمط التدافعي استدعاءا جديدا للولاءات القبلية في غياب عناصر التفاعل الأيجابي، لكنه لا يطرح كمشروعا جديا بإعتبار أن حركة الصدام والعنف والحرابة والأنشقاق والتدافع بين المجموعات البشرية هو قوى هدم لا يمكن لدعاتها أن يتكهنوا بمداها ولا بتأثيراتها، ولنا في نموذج البلقان والصراعات القبلية في إفريقيا نهاية القرن الماضي خير أمثلة لما أدت إليه مشاريع الموهم المجهول.  أما في دولة مثل السودان فإن غايب ثقافة التفاعل فتح المجال أمام تفتيتات عرقية موهومة ومشاكل إقتصادية متراكمة تهدد كل الكيانات التي إنشقت والتي تنشد الأنشقاق تحقيقا لما توهمه من تقرير لمصير مجهول.
  فبعيدا عن تفسيرات المؤامرة، التي لا يمكن إستثناؤها كعنصر فاعل، يجب أن نضع حدا فارقا بين الدعاوي التي تعتمد التدافع والصراع من جهة، ومشاريع التفاعل الأجتماعي والثقافي.  فالأولى تنشد التصادم والتفتت والاقصاء وتنشر ثقافة إلغاء وتحقير الأخر ورفضه ضمنيا أو بشكل صريح.  في المقابل، تعتبر المشاريع التفاعلية الأخر جزءا من الكيان العام ومن شخصية المكون الفردي.  أما من يعتبرون أن التدافع سنة كونية أو حقا مشروعا للثأر من خيبات موهومة أو دفاعا عن مقومات تفرد وخصوصية فإنهم يتناسون أن الدفع والدفاع هما في مقابل إعتداء وعدوان وليسا مقومين من مقومات السنة الكونية أو الحقوق الإنسانية.  ذلك أنه في غياب الأعتداء والتهديد ينتفي الحق الأنساني في طرح التصادم ورد الأعتداء.  فالأية الكريمة التي تشير الى دفع الله الناس بعضهم ببعض ليست إلا مكملا لمعاني واردة في سياقات الأعتداء، أي الحد المبرر للعنف والتصادم.  والامر نفسه ينطبق على صنوها في الدعاوي الحقوقية التي تنشأ عنها حركات الأقليات وطروحات الأنفصال والتدافع داخل مكونات الأمة الواحدة.  إذا، بدل طرح وترسيخ ثقافة التفاعل الأيجابي والنظر إلى الأمور بموضوعية في إطار مشاريع ثقافية وحضارية حقيقية، تعمل ثقافة الموروث التصادمي التدافعي على تبرير وزرع أفكار العنف والأقصاء والتهميش التي لا ترقى إلى مستوى كلمة مشاريع.

No comments:

Post a Comment